عندما تصبح الكوفية جريمة: التطبيع في البحرين يشنّ حربًا على الرمز الفلسطيني

يشكل حظر الكوفية الفلسطينية في البحرين ذروة مسار سياسي طويل يسعى إلى تجفيف كل ما يرمز إلى فلسطين في الوعي العام، وإخراج القضية الفلسطينية من المجال العام البحريني بالقوة لا بالإقناع.
إذ حين تتحوّل قطعة قماش، ارتبطت لعقود بالنضال والهوية والكرامة، إلى “شبهة أمنية”، فهذا يعني أن السلطة دخلت مرحلة الصدام المباشر مع الرمز، لا مع الفعل، ومع المعنى قبل السلوك.
فالكوفية الفلسطينية ليست شعار حزب، ولا راية تنظيم، ولا أداة تحريض. إنها رمز جامع، ارتداه الفلاح الفلسطيني، وحمله المقاوم، وتبنّته الشعوب العربية والإسلامية بوصفه تعبيرًا بسيطًا وعميقًا عن الانتماء لقضية عادلة.
لذلك فإن استهدافها في البحرين لا يمكن فصله عن سياسات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، التي باتت ترى في أي تعبير شعبي عن التضامن مع فلسطين تهديدًا سياسيًا يجب قمعه قبل أن يتحوّل إلى موقف عام يصعب احتواؤه.
ويكشف قرار ملاحقة من يبيع الكوفية أو يرتديها خوفًا سلطويًا حقيقيًا من الرمز، لأن الرمز لا يحتاج إلى خطاب ولا إلى تنظيم، بل ينتقل تلقائيًا بين الناس، ويوقظ ذاكرة لا تستطيع الأجهزة الأمنية السيطرة عليها.
فالكوفية تقول ما لا تريد السلطة في البحرين سماعه: أن فلسطين لا تزال حاضرة في وجدان البحرينيين، وأن التطبيع الرسمي لم ينجح في اقتلاعها من الشارع ولا من الضمير، مهما ارتفعت صور “السلام” في الإعلام الرسمي.
الأخطر في حظر الكوفية أنه يؤسس لسابقة خطيرة: تجريم الموقف الإنساني والسياسي من خلال المظهر. هنا لا تعاقب الدولة فعلًا مخالفًا للقانون، بل تعاقب هوية ورأيًا وانحيازًا أخلاقيًا.
وهذا يعني عمليًا إعلان حرب مفتوحة على حرية التعبير، وعلى ما يفترض أن الدستور البحريني يكفله من حق إبداء الرأي والتضامن السلمي. فالدولة التي تخشى قطعة قماش، هي دولة تشك في شرعية خياراتها قبل أن تشك في مواطنيها.
في هذا السياق، يصبح حظر الكوفية جزءًا من إعادة تعريف “المسموح والممنوع” بما يخدم سردية السلطة وحدها. فالتطبيع، لكي يستقر، يحتاج إلى إسكات كل رمز يفضح تناقضه الأخلاقي.
ولذلك لا يُستهدف السلاح ولا الخطاب المسلح، بل تُستهدف الكوفية، لأنها أبلغ من الخطب، وأصدق من البيانات، وأخطر على مشروع التطبيع من أي شعار سياسي مباشر. إنها تذكير يومي بأن هناك احتلالًا، وأن هناك شعبًا يُقتل ويُحاصر، وأن الصمت الرسمي لا يُقنع أحدًا.
كما أن استهداف الكوفية يعكس تحوّل الدولة من محاولة ضبط الفعل السياسي إلى محاولة هندسة الوعي الجمعي بالقوة. فالسلطة لا تريد فقط منع التظاهر أو الهتاف، بل تريد إعادة تشكيل ما يشعر به المواطن، وما يتعاطف معه، وما يراه “مقبولًا”.
وهو ما يعد مرحلة متقدمة من القمع، تُعرف تاريخيًا بأنها أخطر أشكال الاستبداد، لأنها تنقل الصراع من المجال السياسي إلى المجال الثقافي والرمزي.
والمفارقة أن السلطة التي ترفع شعارات “التسامح” و”التعايش” هي ذاتها التي تضيق برمز إنساني جامع كالكوفية.
فكيف يمكن لدولة أن تدّعي احترام التعددية وهي تجرّم تعبيرًا سلميًا عن التضامن مع شعب مظلوم؟ وكيف يمكنها إقناع الرأي العام بأنها لا تزال منحازة لفلسطين، فيما تعاقب من يرتدي رمزها الأبرز؟ هذا التناقض الفجّ يكشف زيف الخطاب الرسمي، ويؤكد أن التطبيع لم يكن مجرد خيار سياسي، بل مسارًا يتطلب قمع المجتمع لإجباره على التماهي معه.
ويؤكد المراقبون أن ما يجري في البحرين ليس مجرد انتهاك فردي، بل رسالة ترهيب جماعية: أي تعاطف علني مع فلسطين قد يضعك في دائرة الاستهداف. وهذه الرسالة، وإن بدت قاسية، تعكس في عمقها حالة قلق سياسي، لأن الأنظمة الواثقة لا تخشى الرموز، ولا تحارب الذاكرة، ولا تخاف من الكوفية.
هكذا تبدأ المعركة في البحرين: معركة ضد الرمز، وضد الذاكرة، وضد فلسطين بوصفها قضية حيّة، لا ملفًا مغلقًا. ومعركة كهذه، مهما اشتد القمع فيها، محكومة بالفشل، لأن الكوفية ليست مجرد قماش، بل ذاكرة شعب، وهوية أمة، وضمير لا يمكن مصادرته… والذاكرة، في نهاية المطاف، لا تُحظر.



