قراءة في العلاقة المضطربة بين الدولة والمجتمع المدني في البحرين

أعاد الحكم النهائي الصادر عن محكمة التمييز بحق ثلاثة من مسؤولي جمعية التوعية الإسلامية – بالحبس ستة أشهر ومصادرة أكثر من 168 ألف دينار بحريني على خلفية اتهامات تتعلق بجمع أموال دون ترخيص والإنفاق في غير أغراضها – فتح ملف العلاقة المضطربة بين الدولة والمجتمع المدني في البحرين.
فالقضية لا تبدو استثناءً عابرًا بقدر ما تعكس نهجًا تراكميًا قوامه الرقابة المُفرطة والتسييس والوصاية الإدارية والقضائية على الفاعلين الأهليين والدينيين، بحسب ما أكدت منظمة سلام للديمقراطية وحقوق الإنسان.
وأشارت المنظمة إلى أنه منذ حلّ «التوعية» في يونيو 2016 ثم السماح لها بالعودة إلى النشاط في يونيو 2022، ظلّت الرسالة الضمنية ثابتة: العمل الأهلي مقبول ما دام منضويًا بالكامل تحت مظلة التدخل الرسمي.
ويأتي حكم التمييز الأخير ليؤكد أن سقف الاستقلالية منخفض، وأن أي اختلاف في القراءات أو العثار الإداري قد يُترجم سريعًا إلى إجراءات جنائية أو مالية بدل المعالجات الإدارية المتدرجة.
وما يعزّز هذه القراءة سجلٌّ ممتدّ من الإجراءات التي طالت جمعياتٍ ونقابات ومنظمات حقوقية ودينية: إغلاق أو تجميد، محاكمات لأعضاء، أو هندسة مجالس إدارات بقرارات فوقية.
والنتيجة العملية واحدة: تجفيف مصادر العمل الأهلي المستقل وتحويل النشاط الاجتماعي والديني إلى ملف أمني/سياسي. وفي بيئة كهذه، يصبح القضاء—الذي تشكك منظمات حقوقية في استقلاله—أداة حاسمة في إعادة قولبة الحقل المدني وفق إيقاع السلطة.
المفارقة أن الرقابة على التمويل والشفافية المالية مطلبان مشروعان ومعمول بهما عالميًا.
لكن الفرق الفاصل بين رقابة تضبط وتُصلح وسيطرة تُخضع وتُعاقب يتبدّد حين يُعامَل الخطأ الإداري بوصفه نية مبيتة، وتُتجاهل سبل التصحيح الإجرائي: تنبيه، إنذار، مهلة للمعالجة، تدقيق مستقل—قبل القفز إلى الإغلاق أو المصادرة أو الحبس. ذلك يُقوّض الثقة في المنظومة ويُرسّخ فكرة أن المساحة العامة مُدارة بالعقاب لا بالشراكة.
وتزداد حساسية هذا النهج حين يُستشعر تفاوتٌ في الاستهداف يطاول المكوّن الشيعي بوجه خاص، سواء في ملفات الجمعيات الدينية أو في تقييد الشعائر كما حدث في جامع الدراز ومنع إقامة صلاة الجمعة.
وبدلاً من إدارة الخلاف بالحوار التقني والمرجعية القانونية المتوازنة، يغدو الإغلاق والمنع حلاً أولًا، وهو ما يضعف الجسور بين الدولة وقواعد اجتماعية واسعة ويُعمّق شروخ الثقة.
إداريًا، تتعامل السلطة مع الجمعيات كما لو كانت مؤسسات حكومية: إخضاع للمسار ذاته من التعيين والتوجيه والضبط السياسي.
لكن الجمعية الأهلية بطبيعتها مستقلة، تُحاسَب بمعايير الحوكمة والشفافية والتوافق مع القانون—not «الاصطفاف مع الرواية الرسمية». حين تُدار الجمعيات بذهنية الجهاز، يجد المجتمع المدني نفسه أمام ثلاثية مُغلقة: التبعية أو التهميش أو الجزاء.
في المقابل، تتطلّب الحوكمة الرشيدة للمجال الأهلي أدوات ومعايير واضحة: لوائح مالية دقيقة، نشر تقارير دورية، تدقيق خارجي مستقل، قنوات تواصل مفتوحة مع الجهة المشرفة، آلية تصحيح متدرجة للمخالفات، ومقاربة تناسبية للعقوبات. بهذه الأدوات تُحمى نزاهة التمويل وتُصان استقلالية القرار، بدل وضعهما في كفةٍ واحدة.
على المستوى الاجتماعي والديني، تُثبت التجارب أن التضييق يخلق اقتصادًا موازيًا للثقة: مجتمعات منغلقة، قنوات تمويل غير شفافة، وفضاء دعوي بلا مرجعية مؤسسية.
أمّا الانفتاح المنضبط—الذي يجمع بين حرية التنظيم وصرامة الامتثال المالي—فيدفع الفاعلين إلى العلنية والامتثال ويُسهّل على الدولة رصد المخاطر الفعلية بدل مطاردة ظلالها.
كيف تُصحّح البحرين المسار؟ ثمة خريطة طريق واقعية يمكن البدء بها فورًا:
- تعليق حلّ الجمعيات كخيار أول، واعتماد سلّم إجراءات تصحيحية قبل أي تدبير نهائي.
- تقوية استقلال القضاء الإداري المختص بالمنازعات الأهلية، وضمان حق التقاضي بمهلٍ معقولة وإجراءات شفافة.
- مأسسة الشراكة الرقابية: وحدات امتثال داخل الجمعيات، تدقيق خارجي سنوي، ونظام إنذارات تصاعدي.
- تحييد الشعائر الدينية عن التجاذبات، وضمان حرية العبادة وفق القانون، مع آليات تفاوض شفافة عند أي خلاف.
- مراجعة تشريعات الجمعيات لتوسيع الهامش المدني، وإلغاء أو تعديل المواد التي تسمح بـ«الوصاية المفتوحة» أو العزل السياسي للجمعيات.
ويؤكد مراقبون أن الدولة القوية لا تخاف مجتمعها المدني؛ بل تبنيه شريكًا ورقيبًا في آن، وإن استمرار نهج الحلّ والمحاكمات سيُبقي الجسور مهدّدة والفضاء العام هشًّا.
أمّا الخطوة الإصلاحية الجريئة—التي تُعيد تعريف العلاقة على قاعدة الحقوق والواجبات—فهي وحدها القادرة على ترميم الثقة، بحيث لا يُصبح النقد تهمة، ولا تتحوّل الاستقلالية إلى خطر، ولا يُختزَل الدين والمجتمع في زاوية أمنية. بهذه الصيغة فقط يمكن للبحرين أن تتصالح مع مجتمعها المدني والديني، وأن تُشيّد استقرارًا يقوم على الرضا لا الرهبة.