إصلاحات مضللة على قانون الصحافة البحريني… تعزيز للقمع لا توسيع للهامش

تقدم السلطات البحرينية منذ أشهر قانون الصحافة المعدل لعام 2025 باعتباره “خطوة إصلاحية” نحو توسيع حرية الإعلام وحماية الصحفيين.
لكن وراء الخطاب الرسمي المليء بوعود الانفتاح والشفافية، تكشف الوقائع أن التعديلات الأخيرة لا تمثل سوى إعادة إنتاج ممنهجة للقمع، بل وتوسيع نطاقه ليشمل الفضاء الرقمي، في بلد لم يبقَ فيه أثر ملموس لصحافة حرة منذ سنوات.
وقد وثقت رابطة الصحافة البحرينية في الأشهر الستة الأولى من 2025 37 انتهاكًا ضد صحفيين ونشطاء ومستخدمي الإنترنت. وتشمل هذه الانتهاكات الاعتقالات التعسفية، والملاحقات القضائية، وحجب المواقع، والاستدعاءات الأمنية.
هذه الأرقام، وإن بدت محدودة مقارنة ببلدان أخرى، إلا أنها ضخمة في سياق بحريني محدود المساحة وعدد السكان، ما يعكس حجم القبضة الأمنية التي تحكم المجال الإعلامي.
في صميم هذه الانتهاكات يقبع المرسوم بقانون رقم 47 لعام 2002، المعروف بقانون الصحافة، والذي ظل الأداة القانونية الأساسية لشرعنة القمع.
فمواد مثل 19 و20 تسمح بإغلاق أي وسيلة إعلامية بسبب “المساس بالدولة أو الدين”، بينما تجرم المواد 68 إلى 70 أي انتقاد للعائلة الحاكمة، مستخدمة مصطلحات فضفاضة مثل “الإخلال بالنظام العام”.
إصلاحات شكلية… إلغاء السجن واستبقاء الغرامات الباهظة
التعديلات التي صادق عليها البرلمان البحريني في 8 مايو 2025 قُدمت باعتبارها “قفزة تقدمية”، إذ ألغت عقوبة السجن المباشر للصحفيين.
لكن خلف هذا الإنجاز المزعوم، تكمن عقوبات مالية خانقة تصل إلى 50 ألف دينار بحريني (نحو 133 ألف دولار أميركي)، وهي مبالغ كفيلة بإسكات أي صحيفة مستقلة أو مدوّن ناشط.
والأدهى أن الصحفيين لا يزالون عرضة للسجن عبر قوانين أخرى مثل قانون العقوبات، وقانون مكافحة الإرهاب، وقانون الجرائم الإلكترونية. بمعنى آخر، تم استبدال العصا بالسوط المالي، مع الاحتفاظ بسلطة الاعتقال متى شاءت الأجهزة الأمنية.
وتظل حالة الناشط عبد الجليل السنكيس، المحتجز منذ 2011 والمحكوم بالمؤبد بسبب احتجاجاته، المثال الأبرز على هذا النهج. فحتى لو بدا قانون الصحافة مخففًا، فإن سيف القوانين الأخرى حاضر لإبقاء المعارضين خلف القضبان.
الترخيص الإلزامي… رقابة بأدوات قانونية
من أبرز ما يفضح سطحية الإصلاحات، تعديل المادة 67 التي قُدمت على أنها تقلص من سلطات الرقابة. إلا أن الحقيقة أن الترخيص الإلزامي للإعلام لا يزال قائمًا، بل بات أكثر تشددًا.
تشترط وزارة الإعلام حصول الصحف والمواقع الإلكترونية وحتى المنصات الرقمية على تراخيص رسمية، مع منحها سلطة مطلقة في منح هذه التراخيص أو سحبها، دون رقابة قضائية مستقلة. هذه الصلاحية تجعل أي وسيلة إعلامية تحت رحمة القرار السياسي، وتحول الترخيص إلى أداة رقابة مقننة.
والجديد في تعديلات 2025 هو التمدد إلى ما تبقى من فضاءات حرة: الإنترنت. فلأول مرة، تم إدراج “الإعلام الإلكتروني” ضمن نطاق قانون الصحافة، ما يعني أن المدونات، الصفحات الإخبارية، وربما حتى الحسابات المؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، باتت مطالبة بالترخيص.
ويثير هذا التطور مخاوف واسعة، خصوصًا بعد إغلاق آخر صحيفة مستقلة في البحرين، صحيفة الوسط، عام 2017، والتي مثلت نهاية رسمية للصحافة الحرة. كان الإنترنت حتى وقت قريب المتنفس الأخير للأصوات المستقلة، لكن التعديلات الأخيرة تهدد بخنق هذا الهامش المتبقي.
تضاد صارخ مع المعايير الدولية
تتعارض هذه الإصلاحات مع التزامات البحرين الدولية. ففي 2018، أصدر مقررو الأمم المتحدة الخاصون بحرية التعبير إعلانًا مشتركًا شدد على ضرورة حماية استقلال الإعلام وضمان عدم خضوعه لرقابة غير مباشرة.
لكن البحرين تسير في الاتجاه المعاكس تمامًا، حيث تُجرم المعارضة وتعزز الرقابة بأدوات أكثر تعقيدًا.
ويرى خبراء حقوق الإنسان أن ما حدث لا يرقى إلى مستوى الإصلاح، بل يمثل تغليفًا جديدًا لنفس المنظومة القمعية، لإظهار صورة خادعة للمجتمع الدولي، مع الإبقاء على السيطرة الداخلية المحكمة.
وتروج الحكومة البحرينية لهذه التعديلات بوصفها جزءًا من “رؤية إصلاحية شاملة”، لكن في الواقع، هي إصلاحات مضللة تستهدف تحسين السمعة أمام الشركاء الدوليين، خاصة مع استمرار الانتقادات لسجل البحرين الحقوقي.
فالحقيقة أن الدولة لم تغيّر جوهر سياساتها الإعلامية، بل عززت قبضتها عبر أدوات مالية وقانونية جديدة، ووسعت نطاق القمع ليشمل الفضاء الرقمي.