البحرين على شفا الكارثة: الدين العام يتفاقم في غياب الإصلاح السياسي

بين عامي 2015 و2025، تسارعت خطوات البحرين نحو أزمة مالية واقتصادية عميقة، تبدو كأنها قطار بلا مكابح يسير نحو جدار صلب ما يجعل البلاد على شفا الكارثة.
فخلال عقد واحد، قفز الدين العام من 22.85 مليار دولار، أي 66.2% من الناتج المحلي الإجمالي، إلى أكثر من 64.28 مليار دولار، ما يشكّل 129.8% من الناتج المحلي.
هذه القفزة الخطيرة ليست مجرد أرقام جامدة على الورق، بل مؤشرٌ واضح على فشل بنيوي في إدارة المال العام، وغياب رؤية اقتصادية حقيقية تُجنّب البلاد السقوط في هوة الإفلاس، بل وتكشف عن جوهر المشكلة: أزمة سياسية مغلّفة بلبوس اقتصادي.
مديونية مزمنة وميزانية مشوّهة
يعود السبب الأبرز في هذه الأزمة إلى العجز الدائم في الميزانية العامة، وهو عجز لا يُغطى من خلال خطط هيكلية لإعادة بناء الاقتصاد، بل من خلال الاستدانة المستمرة، ما يعني ببساطة ترحيل الأزمة إلى المستقبل، وزيادة عبء الدين على الأجيال القادمة.
المفارقة أن هذا العجز لا ينتج فقط عن ظروف خارجية مثل تقلب أسعار النفط أو التضخم العالمي، بل عن خلل داخلي صارخ في توزيع الثروة، حيث تستحوذ العائلة الحاكمة على حصة ضخمة من الإيرادات، لا تدخل ضمن الميزانية العامة، ولا تخضع للرقابة أو المساءلة.
هذا الوضع الشاذ يُفرغ الميزانية من قدرتها على خدمة المواطنين، ويجعل الحكومة تستدين من أجل دفع الرواتب وتسيير النفقات الأساسية، دون أن يكون لديها هامش للاستثمار في البنية التحتية أو تطوير التعليم والرعاية الصحية أو تحفيز النمو الاقتصادي.
التجنيس السياسي: جذر اقتصادي مسكوت عنه
واحدة من السياسات التي تُمثّل عبئًا مزدوجًا على الاقتصاد البحريني هي سياسة التجنيس السياسي، والتي تستخدمها السلطات كأداة لإعادة تشكيل التركيبة السكانية وتكريس السيطرة السياسية. هذه السياسة ليست فقط مشكلة ديمغرافية أو حقوقية، بل قنبلة اقتصادية موقوتة، إذ تؤدي إلى:
زيادة الضغط على الخدمات العامة، كالصحة والتعليم والإسكان، دون وجود تخطيط لرفع قدرة هذه القطاعات أو توسيعها.
تفاقم البطالة والمنافسة على الموارد، ما يخلق حالة احتقان اجتماعي حاد.
ارتفاع الإنفاق الحكومي دون مقابل إنتاجي، لأن معظم المجنّسين يُستخدمون لأغراض سياسية لا تنموية.
نتيجة لذلك، تصبح الدولة أمام معادلة خاسرة: مواطنون جدد بحاجة إلى خدمات، دون مساهمة حقيقية منهم في الدورة الاقتصادية، وفي ظل بنية مالية منهكة أصلاً.
التصنيف الائتماني والتضخم: مؤشرات الخطر
في أبريل 2025، خفضت وكالة “ستاندرد آند بورز” التصنيف الائتماني للبحرين إلى “سلبي”، مشيرة إلى ضعف شروط التمويل وارتفاع عبء خدمة الدين.
هذا التخفيض ليس تفصيلًا فنّيًا، بل له تبعات مباشرة على قدرة البحرين في الحصول على تمويل خارجي بشروط ميسرة. فكلما انخفض التصنيف، ارتفعت كلفة الاقتراض، ودخلت البلاد في حلقة مفرغة: دين أكبر لتمويل الدين السابق.
وفي الوقت ذاته، تشير التوقعات الاقتصادية إلى ارتفاع معدل التضخم إلى 1.8% في 2025، وهو ما يعني تآكل القدرة الشرائية للمواطنين، خاصة مع ثبات الرواتب وارتفاع أسعار المواد الأساسية.
ومع تآكل الاحتياطات النقدية الأجنبية، تصبح قدرة البحرين على مواجهة الصدمات الخارجية، مثل ارتفاع أسعار النفط أو الأزمات الجيوسياسية، محدودة وخطيرة.
المواطنون يدفعون الثمن
خلف كل هذه الأرقام، هناك مأساة إنسانية صامتة. فبينما تغيب الخطط، وتنمو الأزمات، يعيش المواطن البحريني في دوامة من التراجع المعيشي: تعليم متدهور، رعاية صحية مُكلفة، بطالة متزايدة، وتضييق على الحريات.
جزء من هذه المعاناة يُعبّر عنه في منصات التواصل الاجتماعي، لكن الجزء الأكبر يُخفى وراء صمت العوز وعزّة النفس، حيث يرفض كثيرون الحديث عن جوع أطفالهم أو مرض لم يجدوا له علاجًا.
هذه الكارثة الاجتماعية هي نتيجة طبيعية لانعدام المساءلة والشفافية، ولانفراد النخبة الحاكمة باتخاذ القرار دون أي إشراك حقيقي للمجتمع. ولو كانت هناك رؤية سياسية رشيدة، لأُجبر المسؤولون على إيقاف نزيف المال العام، وتوجيه الموارد إلى حيث يجب أن تكون: المواطن.
لا إصلاح اقتصادي دون إصلاح سياسي
تُظهر التجربة البحرينية أن الإصلاح الاقتصادي لا يمكن أن يتحقق في ظل منظومة استبدادية مغلقة. فغياب المؤسسات الرقابية، وتهميش السلطة التشريعية، وقمع المعارضة السياسية، كلها عوامل تُبقي على الفساد وتمنع أي إصلاح فعلي. لذلك، لا يمكن الحديث عن إنقاذ الاقتصاد دون:
إعادة توزيع عادل للثروة الوطنية، وإخضاع الإنفاق الملكي للمساءلة.
وقف سياسة التجنيس السياسي وإعادة النظر في آثارها الاقتصادية والاجتماعية.
تمكين المجتمع المدني والمؤسسات التشريعية من مراقبة السياسات الاقتصادية.
تحقيق مصالحة وطنية حقيقية تُنهي التمييز وتُعيد الثقة بين الدولة والمجتمع.
قطار الأزمة لا ينتظر
إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن البحرين ماضية في طريق الانهيار الاقتصادي التدريجي. صحيح أن الدعم الخليجي، لا سيما من السعودية والإمارات، قد يؤخر الانفجار، لكنه لن يمنع الكارثة إذا لم تُعالَج الأسباب البنيوية.
المطلوب اليوم ليس مجرد “خطة تقشف”، بل مراجعة شاملة لبنية الحكم والاقتصاد معًا، تُعيد الاعتبار إلى فكرة الدولة العادلة، لا الدولة العائلية.
ويحذر مراقبون من أن كل يوم يمر دون إصلاح، هو خطوة جديدة نحو الهاوية. وعلى من بيدهم القرار أن يدركوا أن الاقتصاد لا يصمد في ظل الظلم السياسي، وأن الاستقرار الحقيقي يبدأ من الشفافية والمساءلة، لا من التجميل الإعلامي ولا من التخدير المؤقت بالمعونات الخارجية.