Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
أخبار

مقبرة سلماباد الثالثة: بين سردية “التسامح” الرسمي وحقيقة التمييز الممنهج في البحرين

لم يأت خبر تخصيص مقبرة ثالثة للمسيحيين في البحرين بمنطقة سلماباد بوصفه حدثًا خدميًا عابرًا.

إذ أن الطريقة التي غطّتها بها صحيفة “الأيام” (تقرير وفيديو ومساحة بارزة) تكشف المقصد السياسي: تثبيت العنوان الدعائي الذي تروجه السلطة منذ سنوات تحت لافتة “تعزيز قيم التعايش والتسامح بين الأديان والثقافات”.

ووفق المادة المنشورة، خُصصت أرض واسعة للمقبرة، ووُفرت كميات كبيرة من الرمل لتهيئتها ورفع مستواها، وحضر مسؤولون وسفراء ورجال دين مسيحيون لالتقاط صورة الافتتاح المألوفة. كل شيء هنا مصمم ليعكس وجهًا “منفتحًا” تصدّره المنامة للخارج.

تناقض بنيوي

غير أن المشهد المصقول يخفي تناقضًا بنيويًا: تسويق عناية رسمية ببعض المكوّنات الدينية لا ينسحب على المكوّن الأكبر في البلد، أي الغالبية الشيعية.

فخلف الصور والكلمات المنمقة، تتراكم شواهد يومية على سياسات إقصاء وتمييز تمس فرص التوظيف في قطاعات حساسة كالجيش والشرطة والأمن، وتطال التمثيل في مواقع القرار، وتنعكس في منافذ السكن والمنح الدراسية والحقوق السياسية والحريات الدينية.

وما تقدمه سلطة النظام الخليفي كـ“قصة نجاح للتسامح” يبدو، عند التدقيق، غطاءً علاقات عامة لتلميع سجل داخلي متخم بالانتهاكات والمظالم.

من منظور أوسع، يندرج افتتاح المقبرة في استراتيجية انتقائية توظف ملف الأقليات كدليل جاهز على التسامح: كنائس تُفتتح، مقابر تُخصص، تصريحات دبلوماسية تتبارى في المديح.

لكن الاختبار الحقيقي لأي خطاب تسامح لا يكون في ما يُمنح للأصغر عددًا فقط، بل في كيفية معاملة المكوّن الأكبر حين يطالب بحقوقه الأساسية.

هنا تتبدى المفارقة الأخلاقية والسياسية معًا: الدولة التي تفاخر بإضافة منشأة دينية جديدة للمسيحيين هي نفسها التي هدمت مساجد شيعية أو منعت إعادة إعمارها في أعقاب أحداث 2011، وضيّقت على مظاهر الشعائر، وجرّمت التعبير المعارض، ورسخت بنية قانونية وأمنية تميّز بين المواطنين.

ازدواجية النظام الخليفي

لا يحتاج البحرينيون، في أصل ثقافتهم الاجتماعية، إلى “دروس رسمية” في التعايش. تاريخ البلاد شاهد على تداخل المكوّنات والتقاليد، واستقرار العلاقات اليومية بعيدًا عن الاستعراض.

ما يحتاج إلى مراجعة هو أداء الدولة: يضيق صدرها بالمواطن الشيعي حين يطالب بالمساواة والعدالة، فيما تنفرج أساريرها أمام وفود أجنبية وصور بروتوكولية تدّعي الانفتاح.

هذه الازدواجية لا تجرح فقط كرامة شريحة واسعة من المواطنين، بل تقوّض شرعية الخطاب الرسمي ذاته؛ إذ لا يمكن لرسالة “التسامح” أن تُصدّق خارجيًا إذا كانت تنقض نفسها داخليًا.

من المهم التوضيح أن الاعتراض هنا ليس على حق المسيحيين أو غيرهم في مقابر وكنائس ومؤسسات ترعى شؤونهم الدينية؛ فهذا حق بديهي لا نقاش فيه ويجب صونه وتعزيزه.

فالمشكلة تكمن في تحويل هذه الخطوات الطبيعية إلى ستار يُحجب وراءه واقع تمييزي فاقع. فالعدالة لا تتجزأ: دولة المواطنة المتساوية تُقاس بقدرتها على حماية حقوق الجميع بلا انتقاء، وبأن توفّر معايير موحدة في العمل والسكن والتعليم والمشاركة السياسية، لا أن تمنح “استثناءات تجميلية” هنا، وتشدّد القبضة هناك.

ويؤكد مراقبون أن الإصرار الرسمي على صناعة “لحظات تسامح” أمام الكاميرات يقابله إصرار مضاد لدى المواطنين على سردية الحق.

ولذلك خرجت، كلما استجدت مناسبة كهذه، أصوات تذكّر بأن الصورة ليست كل الحقيقة، وبأن ركامًا من المظالم لا يُمحى بشريط افتتاح، ولا يُسقطه تصريح دبلوماسي.

سبل الترسيخ الفعلي للتسامح

بحسب المراقبين فإن بناء ثقة داخلية حقيقية أولوية لا تُعوّضها أي مكاسب دعائية خارجية؛ فالدول تُحاكم في نهاية المطاف بسجلها مع مواطنيها، لا بعدد بيانات التهنئة التي تتلقاها من عواصم بعيدة.

ولمن يريد فعلًا ترسيخ التسامح، ثمة مسار واضح: الاعتراف أولًا بوجود تمييز ممنهج والعمل على تفكيكه تشريعيًا وإداريًا؛ إقرار سياسات توظيف وترقٍّ شفافة خالية من الاعتبارات المذهبية؛ إعادة إعمار ما هُدم من دور العبادة وتعويض المتضررين؛ إطلاق مسارات مشاركة سياسية حقيقية تُعيد توزيع الثقة بين الدولة ومواطنيها؛ توفير ضمانات للحريات الدينية والمدنية دون انتقائية.

عندها يصبح افتتاح مقبرة للمسيحيين خبرًا طبيعيًا يُقرأ في سياقه الصحيح: بلدٌ يصون تنوعه ويعامل جميع مواطنيه ومعارضيه ومكوناته بالمعيار ذاته.

ختامًا، يبقى افتتاح مقبرة سلماباد الثالثة للمسيحيين مؤشرًا إلى مفارقة زمننا البحريني: تسامحٌ مُعلن بأدوات العلاقات العامة، وتمييزٌ مُمارس في تفاصيل الحياة اليومية. ما بينهما مسافة يمكن ردمها إذا توفرت الإرادة السياسية للمراجعة والإنصاف.

أما الاستمرار في سياسة الصورة دون جوهر فلن يزيد المشهد إلا انقسامًا، ولن يمنح البحرين ما تستحقه من استقرار ورسملة اجتماعية قائمة على العدالة. التسامح الحق ليس لافتة على بوابة مقبرة، بل عقد مواطنة متساوية تُحترم بنوده في كل يوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 + أربعة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى