واقع صارخ في البحرين: دولة بوليسية تُدير شؤون الحكم بالعقل الأمني

لا تبدو سلطات النظام الخليفي الحاكمة في البحرين مهتمة بتغيير الصورة النمطية التي ترسّخت عنها منذ أكثر من عقد: دولة بوليسية تُدير شؤون الحكم بالعقل الأمني وتحتكم إلى القمع بدل الحوار.
ومع أن هذه السمة ليست جديدة، إلا أن الأسابيع الأخيرة شهدت تصعيدًا غير مسبوق في القبضة الأمنية، تجلّى في حملات اعتقال تعسفية، واستدعاءات لمواطنين ونشطاء لمجرد التعبير عن آرائهم، وتضييق الخناق حتى على المناسبات الاجتماعية التي لا تحمل أي طابع احتجاجي. كل هذا يعكس ذهنية متجذّرة في مؤسسات الحكم: لا مكان لصوت خارج الإجماع المفروض من الأعلى.
دولة تحكمها الأجهزة الأمنية
يتقاطع سلوك النظام في البحرين مع الأنظمة التسلطية التي جعلت من “الأمن” عنوانًا شاملًا ومطاطًا، يتم من خلاله شرعنة السيطرة الكاملة على مفاصل الحياة العامة والخاصة.
فالدولة لا تنظر إلى الأمن باعتباره حماية للمواطن، بل بوصفه آلية سيطرة عليه. ولذلك، يتحوّل المواطن إلى مشتبه به دائمًا، وتُصنَّف أبسط الأفعال كـ”تهديد للنظام العام” أو “إساءة لهيبة الدولة”.
الهواجس الأمنية تتقدم على ما سواها، وتُرصد لها الموارد والأجهزة والتقنيات والتشريعات. ونتيجة لذلك، فإن البحرين – على صغر مساحتها وقلة سكانها – تتمتع بأحد أعلى معدلات الإنفاق الأمني نسبة لعدد السكان، ويُدار جزء كبير من شؤونها اليومية من قبل وزارة الداخلية والأجهزة التابعة لها، التي لا تكتفي بملاحقة الناشطين، بل تلاحق حتى التغريدات، واللافتات، والزيارات العائلية.
التصعيد الأخير: قمع بلا هوادة
في مايو 2025، تصاعدت الإجراءات القمعية بشكل لافت. فخلال أسابيع قليلة، سُجلت حملات توقيف طالت العشرات، من بينهم شبان شاركوا في مسيرات سلمية لم تطلق هتافات معارضة، وإنما رفعت شعارات تطالب بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، وتُندد بسوء الأوضاع المعيشية.
ولم تشفع سلمية التظاهرات لأصحابها، إذ تعرضوا للملاحقة والضرب والاعتقال، وسط صمت مطبق من وسائل الإعلام الرسمية التي تواصل تسويق رواية “الاستقرار والتنمية”.
وقد تجاوزت الملاحقات حدود النشاط السياسي، لتطاول مناسبات اجتماعية صرفة، مثل زيارة رمزية لمنزل الشيخ علي سلمان، الأمين العام لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية والمعتقل منذ عام 2014. فالسلطات رأت في هذا التجمع السلمي تهديدًا ووسمت المشاركين به بأنهم ينخرطون في “تحركات مشبوهة”.
أدوات القمع: ترسانة من القوانين والتكنولوجيا
لا تكتفي السلطة بالقمع الميداني، بل تسنده بترسانة قانونية تقيّد الحريات بشكل ممنهج. تُستخدم قوانين مكافحة الإرهاب، و”حماية الوحدة الوطنية”، و”أمن الدولة” كأدوات لحبس المغردين وملاحقة النشطاء. تُمنح وزارة الداخلية صلاحيات واسعة في المراقبة والتوقيف، دون رقابة قضائية مستقلة فعالة.
في موازاة ذلك، تستعين البحرين بأحدث أدوات التجسس الإلكتروني. تقارير دولية، أبرزها من “Citizen Lab” و”منظمة العفو الدولية”، كشفت استخدام برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي لاستهداف معارضين وصحافيين وحتى نشطاء في الخارج.
وتؤمد منظمات دولية أن هذا الانتهاك الرقمي يتكامل مع منظومة المراقبة الميدانية ليجعل من البحرين واحدة من أكثر الدول انتهاكًا للخصوصية والحريات الرقمية في المنطقة.
القمع الطائفي الممنهج
منذ 2011، انتهجت السلطات سياسة تمييز طائفي واضحة، تستهدف تحديدًا المواطنين الشيعة الذين يشكلون غالبية السكان. هذا التمييز يظهر جليًا في التوظيف داخل الأجهزة الأمنية، وفي منع الممارسات الدينية، وحتى في توزيع الدعم والإعانات.
وغالبًا ما تُقرن المطالب المعيشية والاجتماعية التي يرفعها أبناء هذه الطائفة بتُهم “الولاء للخارج”، و”التحريض الطائفي”، ما يكرّس خطابًا رسميًا يقسّم المجتمع ويمنع بناء أي عقد اجتماعي جامع.
إسكات الصوت المعارض
أفرغت السلطة الحياة السياسية من أي مضمون، بعد أن حظرت معظم الجمعيات السياسية المعارضة، وفي مقدمتها “الوفاق” و”وعد”. كما شددت القيود على حرية الإعلام، فحجبت المواقع المستقلة، وأغلقت الصحف التي لا تلتزم بالسردية الرسمية.
وقد امتدّ القمع إلى رجال الدين، الذين طالتهم قرارات الاستدعاء والسجن، لمجرد وعظ أو دعاء يتضمن تلميحًا لمظلومية الشعب أو مطالبه.
ورغم تأكيد الدولة في الخارج على “الإصلاح” و”التعايش”، فإن الواقع الميداني يكشف عن فجوة هائلة بين الخطاب والممارسة. فالملاحقات اليومية، والسجون المكتظة، والإعدامات التي تلوّح بها السلطة بين حين وآخر، كلها تفضح زيف ادعاءات الانفتاح.
وسط هذا الواقع، قد يبدو الحديث عن إصلاح سياسي أو انتقال ديمقراطي ضربًا من الخيال. لكن في المقابل، لا يبدو الشعب البحريني مستعدًا للتسليم بالاستبداد كقدر محتوم.
ففي كل مرة تضيق فيها القبضة، يبتكر المواطنون أشكالًا جديدة من المقاومة، ولو رمزية. من الشعارات المكتوبة على الجدران، إلى التفاعل التضامني على وسائل التواصل، إلى المسيرات المفاجئة، هناك نبض لا يخبو.
ويراهن كثيرون على أن التغيير لن يأتي من الخارج، بل من الداخل، عبر صحوة من داخل مؤسسات الحكم تُدرك أن أمن الدول لا يُبنى على الخوف، بل على الثقة. فالقمع الممنهج لا يصنع استقرارًا، بل يراكم الاحتقان.
ومع تصاعد الأزمات المعيشية، وازدياد العزلة الإقليمية، وانكشاف انتهاكات حقوق الإنسان أمام المجتمع الدولي، فإن السلطة تُغامر بمستقبل البلاد إذا ما استمرت على هذا المنوال.
وعليه فإن القبضة الأمنية في البحرين لم تعد مجرد “إجراء استثنائي” بل أصبحت بنية دائمة في الحكم. غير أن صلابة الشعوب غالبًا ما تفوق حسابات الأنظمة. وما دامت إرادة التغيير حية لدى فئات من المجتمع، فإن أي مشروع استبدادي يبقى معرضًا للانهيار، مهما طال عمره أو اشتدت إجراءاته.