السجون في البحرين… بنية قمع ممنهجة تُدار خارج القانون وتُسَوَّق كإصلاح

تكشف المعطيات المتراكمة من داخل السجون في البحرين أنّ سياسة الاحتجاز لم تعد مرتبطة بتطبيق القانون أو إنفاذ العدالة، بل أصبحت ركيزة أساسية في منظومة الحكم القائم على القبضة الأمنية الصلبة.
فالسجون، التي يفترض أن تكون مؤسسات إصلاحية، تحوّلت إلى أداة سياسية تُستخدم لإسكات المعارضين وكسر أي نشاط مدني أو حقوقي، في قطيعة كاملة مع الخطاب الرسمي الذي تروّجه المنامة في الخارج تحت عناوين “الإصلاح” و“حقوق الإنسان”.
وتشير الشهادات الحقوقية وتقارير المنظمات الدولية إلى أنّ الانتهاكات تبدأ من لحظة الاحتجاز نفسها، حيث يُجرّد السجناء من أبسط الضمانات القانونية.
ويحتجز الكثير من المعتقلين دون أوامر قضائية واضحة، بينما يُحرم آخرون من حق الاتصال بمحامٍ أو مثول سريع أمام القضاء، في مخالفة صارخة للالتزامات الدولية التي صادقت عليها البحرين.
وهذا التفريغ الممنهج للضمانات القانونية لا يمكن فهمه إلا باعتباره سياسة عقاب جماعي متكاملة، تتعامل مع السجناء باعتبارهم خصوماً سياسيين ينبغي إخضاعهم، لا مواطنين يمتلكون حقوقًا دستورية وقانونية. فالمسألة لا تتعلق بتجاوزات فردية أو خلل مؤسسي، بل بمنهج متكامل يجعل من القانون أداة شكلية تُستخدم لتبرير الاعتقال، لا لضمان العدالة.
الإهمال الطبي… عقوبة بطيئة تمس الحق في الحياة
يمثل الإهمال الطبي أحد أخطر أوجه الانتهاكات داخل السجون البحرينية، ويكاد يشكل سياسة متعمدة هدفها إرهاق السجناء جسديًا ومعنويًا. فالتقارير الحقوقية تؤكد وجود حالات خطيرة تُركت لأشهر دون علاج، بما في ذلك مرضى السرطان، وأصحاب الأمراض المزمنة، والمصابين بنوبات حادة تستلزم تدخلاً عاجلاً.
ورغم أن وزارة الداخلية، برئاسة راشد بن عبدالله آل خليفة، تتولى الإشراف المباشر على السجون، إلا أن غياب الرعاية الصحية ليس مجرد تقصير إداري. بل هو، وفق توصيف خبراء حقوق الإنسان، شكل من أشكال التعذيب غير المباشر، وانتهاك صريح للحق في الحياة والحق في الصحة.
فالإجراءات الطبية تُستخدم كوسيلة ضغط: تُؤجَّل، تُعلَّق، أو تُمنَع، بحسب درجة “الامتثال” أو “العقاب” التي يفرضها مسؤولو السجون.
العزل الانفرادي… ممارسة انتقامية خارج القانون
إحدى الممارسات الأكثر قسوة التي تتواتر الشهادات بشأنها هي العزل الانفرادي لفترات طويلة، خارج أي إطار قضائي، ودون تحديد مدة أو مبرر واضح.
ويصف السجناء السابقون هذه التجربة بأنها “موت بطيء”، حيث يُحرم المعتقل من التفاعل الإنساني، والضوء الطبيعي، والحركة، ويُترك لساعات طويلة بلا رعاية.
وبحسب لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، فإن ما يحدث في السجون البحرينية لا يرقى فقط إلى “سوء معاملة”، بل يشمل أنماطًا قد تصل إلى مستوى التعذيب.
فالعزل الانفرادي –عندما يُستخدم كعقوبة طويلة الأمد– يُعتبر معاملة قاسية ولاإنسانية، وهو ما وثقته اللجنة بشكل صريح في تقاريرها الأخيرة.
سوء المعاملة وتفشي ثقافة الإفلات من العقاب
إلى جانب الإهمال الطبي والعزل، تشير الأدلة إلى تعرض سجناء للاعتداء الجسدي واللفظي، سواء في لحظة الاعتقال أو خلال النقل أو أثناء الاحتجاز.
وتجري هذه الانتهاكات داخل بيئة مغلقة بالكامل، خالية من الرقابة المستقلة أو آليات المحاسبة الداخلية فيما أي شكوى تُقدّم من السجناء تُسجَّل غالبًا ضد مجهول، أو تُحفظ دون إجراءات، ما يرسّخ ثقافة الإفلات من العقاب.
ويزداد الأمر خطورة عندما يتعلق الأمر بفئات ضعيفة، وخاصة القُصّر. فقد وثّقت منظمات دولية حالات احتجاز أطفال في ظروف قاسية، وتعرض بعضهم للتهديد أو الضغط النفسي، ما يشكّل انتهاكًا مباشرًا لاتفاقية حقوق الطفل التي يفترض أن البحرين ملتزمة ببنودها.
الصورة أمام المجتمع الدولي… وعود بلا أثر
تسعى السلطات البحرينية بشكل مستمر إلى تقديم نفسها كدولة في مسار الإصلاح، مطلقة بين الحين والآخر وعودًا بـ“تحسين الأوضاع” و“الإفراجات الإنسانية”.
لكن هذه الوعود تبقى في معظمها أدوات علاقات عامة موجّهة للمجتمع الدولي، إذ لا يرافقها أي تغيير حقيقي داخل السجون. وحتى لحظات الإفراج المحدودة التي تُمنح لأسباب سياسية أو أمام مناسبات دولية، غالبًا ما تُستخدم لتخفيف الضغط دون أن تستند إلى مراجعة بنيوية لمنظومة الاحتجاز.
وجاءت إدانة لجنة مناهضة التعذيب الأممية لتكشف حقيقة هذا التضليل، مؤكدة أن الانتهاكات ليست حوادث متفرقة، بل نمط ثابت ومتواصل. وبالرغم من أن اللجنة قدّمت توصيات واضحة، لم تُظهر السلطات البحرينية أي التزام فعلي بتنفيذها، ما يدل على أن الإرادة السياسية للإصلاح غائبة تمامًا.
وما تكشفه هذه الممارسات هو أنّ ملف السجون ليس مشكلة إدارية، بل جزء من أزمة أعمق في بنية الحكم البحريني. فالسجون تُدار كامتداد للأجهزة الأمنية، لا كجزء من منظومة عدالة مستقلة.
وبالتالي، أي إصلاح حقيقي يتطلب تغييرًا جوهريًا في علاقة السلطة بالمجتمع، وهو ما يبدو بعيدًا في ظل غياب المساءلة واستمرار الاستراتيجية الأمنية نفسها التي تحكم البلاد منذ أكثر من عقد.
ويعكس وضع السجون في البحرين واقعًا حقوقيًا مظلمًا يتناقض جذريًا مع الادعاءات الرسمية. إنها مؤسسات تحوّلت إلى أدوات سياسية، تُدار خارج القانون، وتُستخدم لقمع أي صوت مستقل، بينما يبقى المواطن البحريني هو الضحية الأولى لنظام لا يزال يرى في الحرية خطرًا، وفي الحقوق تهديدًا، وفي السجون وسيلة لاستمرار حكمه القائم على القمع.




