هرولة النظام الخليفي لتكريس التطبيع مقابل الرفض الشعبي والثقافي
يصر النظام الخليفي على تصعيد سياسة الهرولة لتكريس التطبيع والتحالف العلني مع إسرائيل في مقابل الرفض الشعبي والثقافي لذلك في البلاد.
ويبرز مراقبون أنه لم يكن في حسابات النظام الخليفي أن يأتي رفض التطبيع مع إسرائيل من مسؤولة رفيعة في نظامٍ مهرولٍ نحو التطبيع، وهي رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، وهي في منصبها هذا منذ 2015، وحتى أقالها ملك البحرين الخميس الماضي.
وقد رفضت في منزل السفير الأميركي في المنامة مصافحة السفير الإسرائيلي، وهذان أمران وليس واحداً؛ وأرفقت ذلك بعدم نشر أيّ صورٍ لها. وهذا ليس غريبا ممن تُكرّر مراراً أن الثقافة فعل مقاومة.
وهي بالطبع، لا تقصد مقاومة الممانعة، بل مقاومة البشاعة والاحتلالات والتطبيع والأفكار الطائفية، ويبدو أن لديها تذمراً واسعاً من البيروقراطية الشديدة في نظام الحكم في البحرين.
تسلمت الشيخة مي وزارة الثقافة والإعلام (2008 – 2010)، ثم وزارة الثقافة (2010 – 2014). وكان لديها رؤية عميقة لعمل وزارة الثقافة، وتراها وزارة تأسيسية لكل نهوض ممكن، ورفضت استمرار إلحاقها بوزارة الإعلام، وعملت من أجل اقترانها بالسياحة، وتطوير الأخيرة لتكون مستدامة.
وكانت معضلتها أن ذلك لا يمكن تحقيقه وتراث البحرين مهمش، وقاماته الثقافية مجهولة. ينتاب الشيخة حزن شديد؛ فالموارد المخصّصة للثقافة شحيحة، وعادة لا توضع في المكان الصحيح.
الثقافة لديها هي كل أشكال الفنون والعمارة والموسيقى والآداب، بل وحتى الحفاظ على المهن القديمة، ولا سيما استخراج اللؤلؤ.
وقد عملت من أجل إعادة بناء بيوتات للثقافة البحرينية، وكذلك طريق للؤلؤ. بدأت ذلك من بيت جدّها الذي كان مهدماً ومقرّاً للقمامة، وهي ذاتها لم تكن معنيةً بالأمر، لولا أن مكتبة جدّها آلت إليها بعد وفاة والدها، وحينها بدأت بقراءة تلك الكتب وما فيها من رسائلٍ وهوامش ومذكّرات، وحينها اكتشفت أمراً آخر، اكتشفت أن هناك بحرين أخرى، فوضعت خططاً، وطوّرتها، وكتبت كتباً، ولم تتوقف أبداً في هذا الميدان.
تربط الشيخة مي بين الثقافة وإعادة كتابة التاريخ، وضرورة إحياء التاريخ البعيد للبلد، وتاريخ البحرين يعود إلى آلاف السنين. أعادت بناء بيت جدّها إبراهيم، وكان أديباً ومثقفاً كبيراً، وزارته شخصيات كبيرة، كأمين الريحاني وسواه كثيرون.
وقد فتحت هذه الإعادة لها ضرورة أن تعمل من أجل تاريخ البحرين، وترتقي ببلادها، وقد ساهمت مساهمة كبيرة في إحياء قرابة 30 بيت للثقافة، وبأسماء شخصيات دينية وثقافية وموسيقية، ولعبت دوراً في إشادة قلعة البحرين والمسرح، وجعلت من المنامة عاصمة للثقافة العربية، ومن المحرّق عاصمة للثقافة الإسلامية.
يشدّك إلى الشيخة مي آل خليفة كثرة انشغالاتها بأمور الثقافة، فهي استُدعيت إلى الوزارة بسبب انشغالاتها تلك، وليس العكس، رغم أن المناصب الرئيسية في المملكة تكاد تكون محصورة بالعائلة المالكة.
وكانت هناك مشكلة، كيف ستؤمن الأموال للمشاريع الكثيرة لكل أوجه الثقافة، وهنا عملت على إشراك القطاع الخاص، واستدعت الاهتمام من دول الخليج الأخرى، ومن اليونسكو، ومن دول عديدة.
ورؤيتها للثقافة ليست مغلقة على البحرين، ولهذا شاركت بأعمال بحرينية خارج البلاد واستقبلت أعمالا خارجية كثيرة، وحاولت جاهدة أن تجعل من الثقافة وجهة سياحية للزائرين لمجلس التعاون الخليجي برمته.
فهناك البيوتات والفنادق ومختلف الأنشطة الثقافية الجاذبة للسياح، وهناك الاحتفالات، وبشكل سنويٍّ وبمواعيدٍ محدّدة. وهذا يعني أنّها تريد استقطاب السياح، والنهوض ببلادها بشكل مستمر.
عودة إلى قصة التطبيع، والتي اندفعت الإمارات والبحرين إليها بسرعة البرق، ومن دون مرجعية المبادرة العربية المعلنة في العام 2002، التي ترفض التطبيع قبل قيام الدولة الفلسطينية في أراضي الـ1967 وعودة الفلسطينيين وحل القضايا العالقة.
يقول استطلاع للرأي أجراه معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى عن تراجع ملحوظ في نسبة مؤيدي اتفاقيات التطبيع مع الاحتلال في دول الخليج في 2022، ونعلم أن كثيرين من شيوخ الإمارات ليسوا مع ذلك التطبيع الذي قادته إمارة أبوظبي.
وظلَّ التطبيع عربيا محشوراً بين الأنظمة وإسرائيل، مع العلم أن الأردن ومصر الموقعين على اتفاقيات سلام مع إسرائيل لم ينخرطا في مشاريع اتفاقيات أبراهام الخاصة بالإمارات والبحرين.
القضية أن وزيرة بحرينية سنواتٍ طويلة ترفض تلك المصافحة. ربما سيتساءل بعضهم كيف فعلت ذلك؟ رفض التطبيع يحتاج فقط للقليل من العقلانية والتفكير والنظر إلى أحوال الفلسطينيين، ولن نتكلم عن الصهيونية مشروعا سياسيا للإمبرياليات من أجل تفكيك ليس فلسطين وحدها، بل أيضا العالم العربي ومنعه من التقدم.
لم تفعل الشيخة مي إلّا ما أملاه عليها ضميرها، فكيف لا، وهي ظلت تقول، مرّات، إن الثقافة فعل مقاومة. وهي التي رفضت الموافقة على مشاريعٍ ليهود أميركان أرادوا المشاركة بعمليات ترميم بيوتات يهودية قديمة في البحرين، ولكن في سياق صهيوني، وقبل همروجة التطبيع عام 2020.
الشيخة مي مثقفة ومؤرّخة أولاً، ومن أجل النهوض ببلادها استلمت وزارة الثقافة ثم رئاسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، وبالتالي رفضها للمصافحة هو رفض لسياسة بلادها أيضاً في التطبيع، ورفض للكيان الصهيوني في فلسطين، وهي التي عملت من أجل توضيح قضية فلسطين للطلبة في بلادها أيضاً.
وفي البحرين رفض واسع للاحتلال الإسرائيلي، وقد أصدرت أكثر من ثماني جمعيات سياسية و23 مجموعة مدنية بيانات مشتركة بصدد ذلك.
ربما لم تكن الشيخة مي مضطرّة لتعلن موقفها هذا من قبل، ولكنها الآن تعلنه بشكلٍ نهائيٍّ. وتدل إقالتها الفورية على الخفّة التي تدار بها الإدارة والسياسة في هذا البحرين.