الجمعيات الخيرية في البحرين بين التضييق الرسمي والاختراق الأمني

لم تعد الجمعيات الخيرية في البحرين مجرد أطر مدنية لتقديم الدعم للفقراء والأيتام، بل تحولت إلى ميدان مراقبة أمنية خانق، حيث تُفتش دفاترها أكثر مما تُفتش حسابات الشركات الكبرى، ويُستجوب العاملون فيها كما لو كانوا في غرف التحقيق.
والفكرة البسيطة التي تأسست عليها – مساعدة المحتاج – باتت تُعامل اليوم كجريمة محتملة، وكأن فعل الخير صار بابًا من أبواب “الأمن القومي”.
وتاريخيًا، شكلت الجمعيات الخيرية في البحرين متنفسًا للفقراء والضعفاء: رئة يتنفس بها المحتاج، وصدر يلوذ به اليتيم، وطاولة يجد عندها الجائع ما يسد رمقه.
لكن هذه الصورة تبدلت. مع صعود هاجس السيطرة، أصبحت الجمعيات تُعامل ككيانات مشبوهة. كل نشاط يُراقَب، وكل تبرع يُدقق فيه، وكل مبادرة تُقرأ على أنها احتمال للتمويل غير المشروع.
رسائل رسمية تصل للجمعيات تطلب: أسماء المتبرعين، خريطة الحي المستفيد، وأحيانًا تفاصيل عبثية مثل “من صلى خلف الإمام هذا الأسبوع”. هوس أمني يخلط بين فعل الخير والاشتباه الجنائي.
التضييق الممنهج: تجفيف منابع الخير
التضييق أخذ أشكالاً متعددة:
منع التمويل الخارجي بحجة أن الدعم “مشبوه”.
تقييد التمويل الداخلي بدعوى أن الجمع يتم دون ترخيص.
عرقلة مشاريع الزكاة والأضاحي عبر اشتراط تقارير تفصيلية تثبت أن الخروف لا يحمل “انتماءً سياسيًا”!
بعض الجمعيات لا تجرؤ على فتح حسابات بنكية، وأخرى تُجمد أرصدتها في منتصف حملات رمضان. والذريعة؟ “الاشتباه في نشاط غير مصرح به”. النشاط المقصود غالبًا لا يتجاوز توزيع سلال غذائية.
الاختراق الأمني: اليد الخفية في مجالس الإدارة
الأخطر ليس التضييق المالي فحسب، بل الاختراق المباشر:
أجهزة الأمن تدفع بمرشحين لمجالس الإدارات.
من يرفض يُهدد بالحل أو التجميد.
بعض الأعضاء يُدفعون للمغادرة “اختياريًا” بعد جلسات ضغط في مبنى الوزارة.
بهذا الشكل، بات المنسق لأنشطة صيفية للأطفال هو نفسه المسؤول عن إرسال تقارير دورية لمكاتب “مكافحة غسل الأموال”. ومع الوقت، تحولت الجمعيات إلى هياكل خاوية تعمل تحت وصاية أمنية مباشرة.
الضحايا: المواطن الفقير
النتيجة الطبيعية لهذا المشهد: الأرملة التي تنتظر مساعدة شهرية تُترك بلا دعم، والطالب الذي يحلم بمنحة جامعية يجد أبواب الأمل موصدة، والأسرة التي تنتظر دفع إيجارها تُهدد بالطرد.
وبينما ينشغل الجهاز الأمني بتقارير الأسماء والأرقام، ينهار الدور الأساسي للجمعيات: خدمة المجتمع.
في المقابل، المستفيد الحقيقي هو منظومة أمنية لا تثق إلا بنفسها، ترى في كل فعل تطوعي بذرة تهديد. النظام يحاول أن يُذل المواطن حتى في صدقته، أن يجعل من التبرع شبه جريمة، ومن الإنفاق في سبيل الله “تحويلاً غير قانوني”.
ازدواجية صارخة: جمعيات مُقرّبة فوق القانون
التضييق يطال الجمعيات المستقلة، بينما الجمعيات المقرّبة من السلطة تُمنح حرية كاملة: تنظيم معارض فخمة، وتوزيع شوكولا تحت شعار “التكافل”، التقاط صور تذكارية أمام عدسات الوزارة.
إلى جانب ذلك تسلم “جوائز الشفافية” من نفس الجهات التي تمنع جمع التمور في مناطق المعارضة.
هذه الازدواجية تعكس أن المشكلة ليست في التمويل ولا في التنظيم، بل في الانتماء السياسي للجمعية ونطاق عملها الاجتماعي.
يؤكد هذا الواقع أنه في البحرين اليوم، أصبح فعل الخير مشروطًا بإذن أمني، والجمعيات الخيرية تُدار كما تُدار ملفات المشتبه بهم. لا يُراد لهذه الجمعيات أن تكون جسورًا بين الناس، بل مجرد أذرع شكلية تلتقط الصور وتوزع الهدايا تحت عين الوزارة.
الضحايا الحقيقيون هم الفقراء والمحتاجون الذين حُرموا من أبسط حقوقهم في الدعم والتكافل. أما الرابح فهو نظام يُصر على أن يبقى كل شيء – حتى الصدقات – تحت مجهره الأمني.