الاعتقالات المستمرة تكذّب ادّعاءات النظام البحريني باحترام الحريّات الدينيّة

في الوقت الذي يواصل فيه النظام البحريني الترويج لنفسه بوصفه “نموذجًا حضاريًا في احترام الحريات الدينية والتعايش المذهبي”، تكشف الاعتقالات المستمرة والوقائع على الأرض حجم الفجوة بين الشعارات الرسمية والممارسات الأمنية الفعلية.
فعشية إحياء ذكرى عاشوراء، شنت السلطات البحرينية حملة قمع ممنهجة ضد الخطباء والرواديد والمشاركين في الفعاليات الدينية، لتثبت مجددًا أن الدولة ما زالت عاجزة عن التعايش مع مكوّنها الشيعي إلا عبر أدوات القمع والمنع والرقابة.
قمع منهجي في موسم ديني
اللافت أن حملة الاعتقالات لم تكن رد فعل على “تحريض سياسي” أو أعمال شغب مزعومة، بل جاءت ضمن سياق استهداف ممنهج لرموز دينية وثقافية شيعية، بسبب مشاركتهم في إحياء موسم عاشوراء، الذي يُعدّ مناسبة مركزية في الوجدان الديني الشيعي.
فقد استُدعي عدد من الشخصيات الدينية البارزة، منهم الخطباء الشيخ كاظم درويش، الشيخ ميثم السلمان، والرادودين جلال وعبد الأمير البلادي، إضافة إلى اعتقال الرادود الحسيني مجتبى العابد، والخطيب عبد الكريم حفيد الملا عطية.
هذه الإجراءات الأمنية، التي شملت حتى رؤساء المآتم كـجاسم المهدي، تشير إلى سياسة ترهيب جماعية هدفها تقويض الفضاء الديني الشيعي ومنع تحوله إلى مساحة للتعبير عن الهوية والانتماء، حتى وإن كان ذلك في إطار طقوسي محض.
التسامح المزيّف: خطاب رسمي يفتقر للمصداقية
في مقابل هذا القمع الصريح، خرج “عبد الله أحمد الخليفة”، رئيس مجلس أمناء مركز حمد العالمي للتعايش والتسامح، ليزعم أن البحرين “نموذج يُحتذى به في احترام الحريات الدينية والمذهبية”. لكنّ الواقع اليومي ينقض هذا الخطاب تمامًا.
فلا يمكن الحديث عن التسامح، بينما يُعتقل الخطباء بسبب إلقاءهم كلمات دينية، وتُستدعى الشخصيات الدينية بسبب مشاركتها في الشعائر. ولا معنى لـ”الوحدة الوطنية” حين يُعامل المكوّن الشيعي بوصفه تهديدًا أمنيًا موسميًا يجب كبحه عبر الترهيب والتضييق، لا عبر الحوار والاعتراف بحق الاختلاف.
الدولة الأمنية فوق الدولة المدنية
ما جرى خلال عاشوراء هذا العام ليس استثناءً، بل استمرارية لنهج قمعي تجذّر منذ اندلاع انتفاضة 2011، حين قمعت السلطات كل مظاهر التعبير السلمي، بما فيها الشعائر الدينية، بدعوى حماية الأمن والنظام.
لكنّ من الواضح أن ما تريده الدولة الأمنية في البحرين هو مجتمع منمط، خاضع بالكامل لهيمنة سياسية طائفية، لا مكان فيه لتعددية دينية أو ثقافية حقيقية.
فبدل أن تكون عاشوراء مناسبة للتسامح والاحتواء، تحوّلها السلطة إلى موسم للرقابة والمراقبة، حيث تُنتهك الخصوصيات، ويُحاصر الحسين في خطبائه ورواده، ويُنظر للمآتم على أنها خلايا محتملة يجب احتواؤها أمنيًا لا احترامها ثقافيًا.
الإقصاء الطائفي… سياسة لا استثناء
لا يمكن فصل هذه الاعتقالات عن السياق الطائفي الأوسع الذي تتبعه السلطة في البحرين.
فحرمان الشيعة من التمثيل السياسي الحقيقي، وتفكيك جمعياتهم، ومنع رجال دينهم من التعبير، وملاحقة شعائرهم — كلها خطوات تكشف أن ما يجري هو مشروع إقصائي منظّم، يتخفى وراء شعارات التسامح والاعتدال، في وقت تُدار فيه البلاد من قبل نخبة لا تؤمن بالتعددية إلا بقدر ما تُمكّنها من احتواء الآخرين لا التفاعل معهم.
ازدواجية المعايير والازدواج في المعاملة
ما يزيد من فداحة الوضع هو ازدواجية المعايير الواضحة في تعامل الدولة مع المناسبات الدينية. فبينما تُفتح المساجد في مناسبات رسمية برعاية من الدولة، وتُنقل فعاليات بعض المكونات عبر الإعلام الرسمي، يُعامل إحياء عاشوراء بوصفه تهديدًا يجب تقليصه لا حمايته.
وهذا تمييز صارخ يتعارض مع مبدأ المواطنة المتساوية، ويؤكد أن الهوية الطائفية لا تزال المعيار غير المُعلن في توزيع الحقوق والحريات.
وتؤكد منظمات حقوقية دولية أنه آن الأوان أن تتحمل المنظمات الدولية مسؤوليتها تجاه ما يجري في البحرين من انتهاكات لحرية الدين والمعتقد. فلا يكفي أن يُنظر إلى البحرين بوصفها حليفًا إقليميًا أو مركزًا ماليًا، دون مساءلتها عن سجلها الحقوقي المتدهور.
على الأمم المتحدة، والبرلمان الأوروبي، والهيئات الدولية المختصة، أن تضع قضية حرية المعتقد في البحرين ضمن أولوياتها، وتطالب بالإفراج عن المعتقلين، ووقف استدعاء الرموز الدينية، وضمان حرية الشعائر من دون تدخل أمني.
ذلك أن الاعتقالات التي طالت خطباء ورواديد عاشوراء هذا العام ليست مجرد تجاوزات، بل هي وجه آخر لحقيقة النظام البحريني الذي يواصل اضطهاد مكوّن رئيسي من شعبه، في وقت يزعم فيه التعايش.
وهذا القمع المستمر لا يكشف فقط زيف الشعارات الرسمية، بل يضع البحرين في مواجهة مع نفسها ومع المجتمع الدولي، ويُبرز الحاجة الملحّة لإصلاح جذري يضمن للمواطن البحريني — أيًا كان مذهبه — حرية المعتقد وكرامة الانتماء.