في خطوة تعزز البحرين باعتبارها دولة فقيرة بالحقوق غنية بالأسلحة، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن إقرار صفقة بيع نظام صواريخ المدفعية عالية الحركة (HIMARS – إم142) إلى البحرين، بقيمة تقارب 500 مليون دولار، على أن تكون شركة “لوكهيد مارتن” المقاول الرئيسي.
وبمجرد صدور الإعلان، سارع الإعلام الرسمي في المنامة إلى تصوير الصفقة باعتبارها “إنجازًا إستراتيجيًا” يعزز الشراكة الدفاعية مع الولايات المتحدة.
لكن خلف هذا البريق العسكري، يبرز السؤال الجوهري: لماذا تنفق حكومة البحرين نصف مليار دولار على صواريخ متقدمة بينما يعيش المواطن في أزمة معيشية خانقة؟
ترسانة تتضخم دون مبرر
لم تكن هذه الصفقة الأولى، بل تأتي في سياق سباق تسلّح غريب تخوضه البحرين منذ التسعينيات. فهي أول دولة خليجية تحصل على مقاتلات F-16 عام 1990، وتوالت بعدها الصفقات:
2017: طائرات F-16V جديدة وترقية الأسطول القديم.
2019: معدات برية وأنظمة دفاع جوي.
2022: طائرات هجومية Bell AH-1Z Viper.
2023: 24 طائرة هجومية Bell AH-1W Super Cobra.
2024: صواريخ “PAC-3 MSE” متطورة.
2025: دبابات M1A2 Abrams SEPv3 بقيمة 2.2 مليار دولار.
والآن، نظام HIMARS، وهو من أكثر الأنظمة الهجومية تطورًا، قادر على إطلاق صواريخ تكتيكية تصل مداها إلى 300 كم.
اللافت أن البحرين لم تخض حربًا حقيقية في تاريخها الحديث، بل لم تُستخدم هذه الترسانة في أي مواجهة، حتى حين اندلعت الحرب الإسرائيلية–الإيرانية الأخيرة، إذ تركت مهمة التصدي للصواريخ للقوات الأمريكية المنتشرة في القواعد على أراضيها.
الأسئلة المعلقة: من يحارب من؟
الترويج الرسمي لهذه الصفقات يثير أسئلة مشروعة:
أين ستُستخدم هذه الصواريخ؟ البحرين محاطة بدول حليفة، وأي مواجهة عسكرية إقليمية تفوق قدراتها الجغرافية والسياسية.
ما الذي تخشاه المنامة؟ التهديدات الخارجية لا تبرر هذه الترسانة، بينما الخطر الحقيقي يظل داخليًا، يتمثل في نقمة شعبية عارمة بسبب سياسات القمع والتمييز.
لماذا تُهمل أولويات المواطن؟ في بلد صغير محدود الموارد، يعاني المواطن من أزمة إسكان، وارتفاع فواتير الكهرباء والماء، وضعف الرواتب، وانهيار الخدمات الصحية والتعليمية. فهل يُعقل أن يكون شراء صواريخ HIMARS أولوية أهم من توفير سرير في مستشفى أو وظيفة لشاب عاطل؟
التسليح بديلاً عن الشرعية
الحقيقة أن النظام البحريني لا يشتري سلاحًا للدفاع عن الدولة، بل لحماية السلطة. كل صفقة أسلحة تُترجم داخليًا على أنها “تأمين إضافي” لبقاء النظام في مواجهة أي حراك شعبي.
فالنظام الخليفي يدرك هشاشته السياسية، خاصة بعد أحداث 2011 التي كشفت حجم الغضب الشعبي، وردّه عليها بالقمع والاستعانة بالقوات الخليجية لقمع المتظاهرين.
الأسلحة إذن ليست درعًا ضد “عدو خارجي”، بل أداة ردع موجهة إلى الداخل، وإلى كل صوت يطالب بالديمقراطية أو المساواة أو العدالة.
التبعية لواشنطن: أمن النظام قبل أمن الوطن
صفقة HIMARS ليست مجرد صفقة تجارية، بل رسالة سياسية تؤكد أن بقاء النظام البحريني مرهون بالدعم الأمريكي. الولايات المتحدة تبيع السلاح، وتؤمن قواعدها العسكرية في البحرين، بينما النظام يقدّم الولاء المطلق مقابل الحماية.
زيارة ولي العهد سلمان بن حمد إلى واشنطن قبل أسابيع، وإعلانه عن استثمار 17 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي، تكشف المعادلة: شراء رضا واشنطن بالدولار والسلاح، مقابل تجاهلها لانتهاكات حقوق الإنسان في البحرين.
اقتصاد مأزوم ومواطن مسحوق
بينما تضخ الحكومة مليارات في شراء صفقات عسكرية، يعاني المواطن البحريني من واقع اقتصادي متدهور:
البطالة تتزايد في صفوف الشباب.
المديونية العامة في مستويات قياسية.
الفساد المالي يستنزف خزائن الدولة.
الخدمات العامة من صحة وتعليم وإسكان في حالة انهيار.
وحدهم العمال والمعلمون والمواطنون البسطاء يواجهون الفواتير الباهظة وغلاء المعيشة. في المقابل، يبرر النظام مشتريات السلاح على أنها “جزء من التنمية”، وكأن الأمن الصاروخي بديل عن الأمن الغذائي والمعيشي.
صورة زائفة للتنمية
يحاول النظام الخليفي إقناع الداخل والخارج بأن صفقات التسلح دليل على “قوة الدولة ومتانتها”. لكن هذه الصورة سراب:
التنمية الحقيقية تُقاس بمستوى رفاهية المواطن، لا بعدد الصواريخ في المخازن.
الدول المستقرة لا تُنفق مواردها المحدودة على شراء أسلحة هجومية لا تحتاجها، بل على تطوير الصحة والتعليم والاقتصاد.
النظام الذي يشتري صواريخ لحماية نفسه من شعبه، إنما يؤكد ضعفه وانفصاله عن الواقع.
ومنذ ثلاثة عقود والنظام البحريني يغرق في سباق تسلح لا نهاية له، فيما يعيش المواطن في أزمة خانقة بلا أفق سياسي أو اقتصادي. صفقة HIMARS الأخيرة تكشف مجددًا أن أولوية النظام ليست مصلحة الشعب، بل ضمان بقائه على كرسي الحكم بأي ثمن.
لكن التجربة أثبتت أن الشرعية لا تُشترى بالصواريخ، وأنه لا HIMARS ولا F-16 ولا دبابات أبرامز قادرة على إخماد أصوات الشعوب المطالبة بحقوقها.
وفي النهاية، ما يحتاجه البحرينيون ليس مزيدًا من الأسلحة الأمريكية، بل دستورًا عادلًا، ومساواة حقيقية، وحريات مصانة، واقتصادًا يوزع الثروة بعدالة. وكل ما عدا ذلك لن يكون سوى إهدار لأموال الشعب في صفقات لن تحمي نظامًا فقد شرعيته منذ زمن طويل.