تحل هذا الأسبوع الذكرى الثالثة والخمسون لإعلان استقلال البحرين التي تستحق الاحتفاء والتخليد، لكن البلاد ما تزال تبحث عن حريتها في ظل استبداد النظام الخليفي الحاكم.
ودشن الانسحاب البريطاني من البحرين في منتصف أغسطس 1971 عهدا جديدا بعد 150 عاما من الحماية البريطانية التي لم تساهم في إقامة دولة حديثة يمثل الشعب مصدر السلطة الحقيقية فيها.
بل عملت تلك الحماية على تمكين الحكم القبلي التوارثي الاستبدادي من الهيمنة المطلقة التي حالت دون قيام منظومة ديمقراطية حقيقية بحسب حركة أحرار البحرين الإسلامية.
وقالت الحركة في بيان اطلع عليه “بحريني ليكس”، إنه منذ الانسحاب البريطاني حتى الآن بقيت دماء الوطن والشعب نازفة، فلم تخل سجون العدو الخليفي من المعتقلين السياسيين الذين تجاوز عمر بعضهم الخامسة والسبعين.
وأضاف أن هذا تم برغم تحضّر البحرينيين وجنوحهم للسلم دائما، بعكس العصابة الحاكمة التي أسست وجودها وحمت بقاءها بالظلم والعنف وإراقة الدماء وإزهاق الأرواق تارة بقتل الناس بالذخيرة الحية وأخرى بالتعذيب في السجون وثالثة بالإعدام.
حدث ذلك وما يزال يحدث تحت أعين داعمي الخليفيين ومسمعهم، بل ومشاركتهم كذلك. ويكفي الإشارة إلى ان البريطانيين لم ينسحبوا من البحرين إلا بعد ان خلّفوا وراءهم تركة كبيرة أخطر عناصرها جهاز أمن قاس لم يرحم كبيرا ولم يوفّر صغيرا، تزعّمه الضابط الاستعماري إيان هندرسون مارس المنكرات بحق المناضلين.
فقد اكتظت السجون بالمعتقلين السياسيين منذ نهاية الستينات، استعدادا للرحيل البريطاني. لذلك جاء ما يسمى “الاستقلال” باهتا لانه لم يدشّن عهدا زاهراء مفعما بالحرّيّة أو زاخرا بدور شعبي فاعل في إدارة البلاد وصناعة قراراتها السياسية وغيرها.
بعد أكثر من نصف قرن على “الاستقلال” ما يزال شبح الاستعمار ماثلا أمام الجماهير كبعبع يأبى الرحيل. فما ان ينتفض الشعب من أجل حريّته وحقوقه حتى تبادر القوى الاستعمارية للتصدي له وقمعه.
ولم يُسممع قط عن موقف غربي قوي يدعم حقوق الشعب خصوصا حقه في تقرير مصيره واختيار نظام الحكم الذي يريده من خلال صنادق اقتراع حرّة.
تحل ذكرى الاستقلال هذا العام في أجواء من القمع المتزايد، تمثل بالاعتقالات المتواصلة والتعذيب وقمع الحرّيأت الدينية ورفض أي إصلاح سياسي.
وبموازاة ذلك تستمر الاحتجاجات والتظاهرات المطالبة بالحرّيّة وإنهاء الحقبة السوداء المدمّرة وإقامة منظومة سياسية ديمقراطية وإنهاء الحكم الفردي الوراثي المفروض على الوطن والشعب بالقوّة. هذا القمع يؤكد أمورا ثلاثة:
أولها: فشل الحكم في التعايش مع السكان الأصليين للبلاد واعتماده القوة والقهر للاستمرار في السلطة. فبرغم ما تحمّله المواطنون من تنكيل واضطهاد طوال أكثر من نصف قرن، ما يزالون يلعقون جراحهم ويتصدّون للظلم والاستبداد ويسعون لإقامة منظومة سياسية مؤسسة على القانون وحكم الشعب وتمكين صناديق الاقتراع من اختيار ممثليه بطريقة شرعية متحضّرة.
إن الفشل الخليفي يكشف اختلاف طبيعة العائلة الحاكمة في البحرين عن بقية العائلات التي تحكم دول الخليج الاخرى. فبينما بقيت تلك العائلات في حالة شبه مستقرة وعلاقات هادئة مع شعوبها، فإن الوضع في البحرين مختلف تماما.
فالطرفان ينظران لبعضهما بالشك والريبة والرفض، فالخليفي لن يقبل يوما بأن يكون بحرانيا، والبحراني لن يقبل بحكم الاستبداد الخليفي كذلك.
ثانيها: أن الشعب الذي ثار مرارا منذ “الاستقلال” لم يُهزم او يُجبر على التنازل عن مطالبه، بل أنه حاضر في الميادين بدون توقف، يقدّم الشهداء تباعا ويصر على تحقيق أمن وطنه وحرّيُته.
وكانت مشاركته في ثورة 14 فبراير تأكيدا لإصراره على البحث عن نظام سياسي متحضّر ورفض المشروع الخليفي جملة وتفصيلا.
وسوف يستمر هذا الشعب في حراكه السلمي الهادف للتغيير، خصوصا بعد ان استثمر فيه كثيرا خصوصا من أرواح شهدائه وعلمائه ومعتقليه. فلم يعد التخلي عن المطالب المشروعة خيارا أمام السكان الأصليين (شيعة وسنة) الذين وطّنوا أنفسهم لتحمّل العناء وتقديم التضحيات من أجل الحرّيّة والكرامة.
ثالثها: أن الحكم الخليفي فقد المبادرة ووصل إلى نهاية الطريق، فلم يعد لديه سوى القمع والاضطهاد والتنكيل ومصادرة الحرّيّات العامة بدون حدود. وبهذا فقد شرعيته التي يفترض ان يستمدها من دستور عقدي مع الشعب ومن صناديق الاقتراع عبر انتخابات حرّة نزيهة بإشراف دولي.
فلو كان لدى الخليفيين ما يستطيعون تقديمه للوطن والشعب لفعلوا، ولكنهم عجزوا إن إقناع المواطنين بقدرتهم على إصلاح نظامهم أو التعايش مع الشعب ضمن منظومة سياسية محكومة باتفاق دستوري يتفق عليه الطرفان. وهكذا بلغ الوضع إلى طريق مسدود، وبقيت دوامة العنف السلطوي مستمرة، في ظل تغييب الشعب واضطهاده والتنكيل به.
والحكم وداعموه يعلمون أن العنف السلطوي في إخماد ثورة الشعب ماضيا ولن ينجح في المستقبل. وليس غير الإصلاح الجذري بديلا.
في ظل هذه الحقائق يحتفي الوطن والشعب بذكرى “الاستقلال” وهم في حالة صمود أسطوري لم ينقطع. هذا الاحتفاء يزخر بالعطاء والثبات والحضور الميداني الذي لا يتوقف.
وقد أصبح الشعب البحريني وممثلوه المعتقلون وعلماؤه المضطهدون وشبابه المقموعون في خندق واحد ضد الاستبداد والظلم والطغيان. إنها واحدة من مفارقات الزمن أن يتواصل نضال شعب ضد جلاديه أكثر من مائة عام بدون توقف.
فهي حالة فريدة لم يبلغها إلا شعوب محدودة من بينها شعب جنوب أفريقيا الذي تمرّد على النظام العنصر وناضل لإنهائه وانتصر في نهاية المطاف.
وكما تظهر الوقائع الحالية في بعض الدول الغربية فإن العنصرية داء يعاني منه بعض الشعوب بسبب عقلية بعض أفراده التي تقوم على أسس من التمييز ضد الآخر المختلف عرقيا أو ثقافيا، والعصبية المقيتة التي تدفع للحقد والكراهية ولا تساهم في بناء مجتمعات عصرية، والجهل المركّب الذي يدفع أصحابه للتطرف والعنف.
وقد نأى الشعب البحريني البطل منذ استقلاله عن كل ذلك لأنه كان يسعى دائما لإقامة منظومة سياسية عصرية تكرّس ثقافة التعايش وتحترم الآخر أيا كان انتماؤه العرقي أو دينه أو ثقافته، والمواطَنة المتساوية التي تجعل البشر متساوين في الحقوق والمسؤوليات وسواسية أمام القانون بدون انحياز او محاباة أو مساومة على الحقوق الأساسية خصوصا الحق في الحياة والحرّيّة والمواطّنة المتساوية.