يشير 18 مليار دينار مقدار السقف المحدد أخيراً، للدين العام البحريني، مجدّداً، إلى ضعف اقتصادي تعانيه البلاد بشكل حاد يختلف تماماً عمّا تروّج له الجهات الحكومية من تعافٍ ونمو وانتعاش، مصحوباً باحتفاءات بالرؤى الاقتصادية المخفِقة.
ويُنْذِر هذا الارتفاع القياسي، تلقائياً، بِتَرصُّد جديد لجيوب المواطنين البحرينيين من خلال فرض المزيد من السياسات الجديدة، والتي تتمثّل في ضرائب مباشرة وغير مباشرة، بالتزامن مع تضخُّم عام تعيشه السوق.
ويتزامن الإعلان الذي نشرته الجريدة الرسمية وجاء كمرسوم بقانون رقم 10 لسنة 2024، مع إعلان الجهاز الوطني للإيرادات فرض ضريبة 15 بالمئة على الشركات متعددة الجنسيات التي تتجاوز إيراداتها السنوية 750 مليون يورو، وذلك بعد 5 سنوات من فرض ضريبة القيمة المضافة على المواطنين (5 بالمئة في عام 2019، 10 بالمئة في عام 2022) وشملت السلع والخدمات كافة، في سلسلة يشكّل المواطن فيها الحلقة الأضعف.
ويلاحظ المواطنون غياب الخطط الاقتصادية الجادّة مع الارتفاع التصاعدي للدين العام خلال السنوات الأخيرة، في ظل تلقّي البحرين للمعونات المالية من الدول الخليجية (نحو 10 مليارات دولار في عام 2018)، ومعاناتها ضعفاً في إنتاج النفط (الأقل خليجياً)، وعجزاً في الموازنة العامة (161 مليون دينار في 2024).
وعلى العكس من دول خليجية أخرى قلّصت ديونها العامة نتيجة لارتفاع أسعار النفط خلال السنوات الأخيرة، لا تنتهج البحرين سياسات شفّافة حول أرباحها من النفط، ولا أوجه مصروفاتها، بحسب جمعية “الوفاق”.
وفي ظلّ اتساع رقعة المصروفات السرية، خصوصاً تلك المتعلقة بالهوايات والرياضات الخاصة، والإنفاق العسكري غير المتزن، مع ارتفاع المصروفات المتكرّرة على الأجهزة الحكومية المتوالدة، يبدو أنّ البحرين تقف أمام نفق اقتصادي مظلم لن يحدّه سقف الـ18 مليار دينار الجديد.
وقد رصدت دراسة تحليلية صادرة عن معهد دول الخليج العربية في واشنطن زيادة التدخل الحكومي في الأنشطة الاقتصادية في البحرين في ظل نهج الفساد الذي يكرسه النظام الخليفي الحاكم في البلاد.
وبحسب الدراسة تحولت استراتيجية البحرين الاقتصادية تدريجياً خلال الثلاثين عاماً الماضية إلى نهج أكثر تدخلاً في أعقاب إدارة الدولة لجائحة فيروس كورونا.
وفي أغلب الأحوال، كانت البحرين تميل نحو قطب رأسمالية السوق الحرة في الطيف الاقتصادي، وخاصة عند مقارنتها بدول مجلس التعاون الخليجي المجاورة لها.
فمنذ سبعينيات القرن العشرين، سعت الحكومة باستمرار إلى خلق بيئة تجارية جاذبة للمستثمرين الأجانب ويستمتع الناس بالعيش فيها.
ولكن على الرغم من هذه التوجهات الليبرالية الكلاسيكية، فإن حكومة البحرين تنظر عموماً إلى الدولة باعتبارها رأسمالية استثمارية استراتيجية. وهذا يعني قيادة القطاع الخاص بنشاط نحو القطاعات الاقتصادية التي يشعر أنها تحمل إمكانات النمو، بدلاً من وضع هذه الأموال في أيدي الشركات والأفراد من القطاع الخاص وانتظارهم لتوجيه الاقتصاد إلى الأمام بطريقة لامركزية وغير منسقة، تحت رعاية “اليد الخفية” التي ابتكرها آدم سميث.
وعلى مدى السنوات الخمسين الماضية، نشأت العديد من أنجح الشركات في البحرين نتيجة لهذا النهج شبه التدخلي، بما في ذلك مصهر الألمنيوم ألبا، وشركة الخليج للصناعات البتروكيماوية، وطيران الخليج، وبنك البحرين الوطني.
وفي كل هذه الحالات، أنشأت الحكومة البحرينية هذه الشركات ولعبت دوراً مهماً في الإشراف على عملياتها من خلال الاحتفاظ بالأسهم ومقاعد مجلس الإدارة.
وباعتبارها الدولة الخليجية التي تمتلك أقل حجم من الموارد الطبيعية، كانت البحرين تواجه ضغوطاً مالية كبيرة، الأمر الذي جعلها أكثر انفتاحاً من جيرانها على الإصلاحات الاقتصادية الجذرية.
ودعت الرؤية الاقتصادية 2030 في البحرين، التي أطلقت في عام 2008، الحكومة إلى التحول من فاعل أساسي في الاقتصاد إلى ممكِّن ومنظم للقطاع الخاص.
وكان من المتوقع أن تكون الشركات التي تعمل على تحقيق الربح المصدر الرئيسي للوظائف، وهو ما يمثل انحرافاً كبيراً عن الدور التقليدي للخدمة المدنية باعتبارها صاحب العمل الافتراضي للبحرينيين الذين يدخلون سوق العمل. وتم تخفيف القيود المفروضة على الملكية الأجنبية ودمجها مع تحرير التجارة، بهدف زيادة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
وقد نجحت هذه السياسات في عدة جوانب. فقد مكنت الإصلاحات التي طرأت على قطاع الاتصالات البحرين من تطوير واحدة من أفضل البنى التحتية الرقمية في العالم، وهو ما ساهم في قرار شركة أمازون ويب سيرفيسز بإنشاء مقرها الإقليمي في المملكة.
كما وصلت مليارات الدولارات من الاستثمار الأجنبي المباشر، ومعظمها في القطاع المالي، مما أدى إلى خلق آلاف الوظائف للمواطنين البحرينيين.
لكن كان للأزمة المالية العالمية في عام 2008 تأثير كبير على آراء الخبراء الدوليين حول المستوى الأمثل للتدخل الحكومي في الاقتصاد، وهذا فتح الباب أمام مراجعة الاستراتيجية الاقتصادية للبحرين.
وقد دفع الانهيار الوشيك للاقتصاد العالمي الناجم عن خروج الممولين في الولايات المتحدة عن السيطرة إلى إعادة تقييم المزيج المناسب من التدخل الحكومي في الاقتصاد، ليس فقط في الغرب ولكن أيضا في الخليج.
وكان خبراء الاقتصاد وصناع السياسات يميلون إلى دعم المزيد من التنظيم وفرض المزيد من الهيكل على القطاع الخاص.
وقد أجبر تفشي جائحة فيروس كورونا جميع الحكومات في جميع أنحاء العالم على اتخاذ إجراءات حاسمة، حيث كان عمق الأزمة الصحية يعني أن موظفي الخدمة المدنية اضطروا إلى إعادة تعلم كيفية التدخل بشكل كبير في الاقتصاد على الفور.
على سبيل المثال، كانت لجان الصحة العامة المشتركة بين الوكالات تقدم بانتظام توجيهات مفصلة للشركات، مثل منافذ البيع بالتجزئة والمطاعم، حول متى يجب أن تفتح أبوابها، والسلع والخدمات التي يمكنها تقديمها، وما إلى ذلك.
وبالمثل، في العديد من البلدان، زاد تدخل الحكومة في سوق العمل بشكل حاد، حيث صرفت الحكومات الإعانات وفرضت قيودًا صارمة تتعلق بسلامة مكان العمل.
وقد تبنت حكومة البحرين مستوى غير مسبوق من السيطرة على كافة القطاعات. ومستوى التدخل كان أعلى كثيراً من أي شيء شهده الآلاف من موظفي الخدمة المدنية في البحرين من قبل.