البحرين وتدمير المواقع الدينية الشيعية: العنف الرمزي كسلاح سياسي

يمثل تدمير المواقع الدينية الشيعية في البحرين نموذجًا صارخًا لما يُعرف بالعنف الرمزي، إذ لا يقتصر الأمر على هدم الحجارة، بل يتجاوز ذلك إلى محو ذاكرة جماعية بأكملها، وتجريد مجتمع بأسره من رموزه الروحية والثقافية.

وبينما قد يبدو هدم مسجد أو ضريح شأنًا عمرانيًا أو أمنيًا في ظاهره، فإن السياق البحريني يكشف عن مشروع أعمق، يستهدف تشويه هوية مجتمعات البحارنة والعجم، وهما المكونان الرئيسيان للطائفة الشيعية في البلاد.

العنف الرمزي: أكثر من مجرد تدمير مادي

خلال أحداث الربيع العربي عام 2011، أطلقت السلطات البحرينية حملة ممنهجة استهدفت التراث الشيعي، تمثلت في هدم ما لا يقل عن 38 مسجدًا وعدد لا يُحصى من الحسينيات والأضرحة والمقابر، غالبًا بذريعة عدم الترخيص.

لكن الحقيقة أن الكثير من هذه المواقع، مثل مسجد الأمير محمد بربغي الذي يعود تاريخه إلى 400 عام، كانت قائمة منذ قرون وتشكل جزءًا أصيلًا من تاريخ البلاد.

لا يمكن قراءة عمليات الهدم هذه إلا في إطار استراتيجية أوسع للعنف الرمزي. وكما يوضح الباحث مايكل سيلز، فإن هدم أماكن العبادة “يمحو التذكيرات البصرية والملموسة بالتقاليد المستهدفة”.

ليس الأمر مجرد إزالة مبنى، بل إلغاء وجود اجتماعي وثقافي وروحي، وقطع الصلة بين الناس وماضيهم، وهو ما يترك فراغًا أعمق من مجرد غياب الحجارة.

الهوية والوجود العام: محو رمزي يتجاوز الجدران

لم يقتصر العنف الرمزي في البحرين على تدمير البنية المادية، بل امتد إلى محاولة طمس الوجود الشيعي في المجال العام.

وقد شملت الحملة نقل مساجد الشيعة إلى مناطق نائية، أو تحويلها إلى حدائق عامة أو ملاعب، في محاولة لإبعادها عن الذاكرة البصرية للمجتمع البحريني.

كما لجأت السلطات إلى تغيير أسماء القرى وإزالة المعالم الرمزية، مثل دوار اللؤلؤة الذي تحول إلى رمز للاحتجاجات، وذلك بهدف تطهير الفضاء العام من أي دلالة شيعية.

حتى المناهج الدراسية والإعلام الرسمي تجاهلا بشكل ممنهج تاريخ البحارنة والعجم، واقتصر بث القنوات الرسمية على الشعائر الدينية السنية، بينما صُوّر الشيعة في الكتب المدرسية باعتبارهم غرباء أو مرتبطين بإيران، في محاولة لتأطير وجودهم في خانة الولاء الخارجي ونزع شرعيتهم الوطنية.

رسالة المقررين الخاصين للأمم المتحدة عام 2016 وصفت الوضع بأنه “نمط متواصل” من تدمير أماكن العبادة ورموز وجود المواطنين الشيعة، وتهميش الروايات التاريخية. وهو ما يشير إلى مشروع متكامل لإعادة كتابة تاريخ وهوية البحرين، بما ينسجم مع الرواية الرسمية التي يريد النظام ترسيخها.

رفض شيعي وصدى دولي

قوبلت هذه الانتهاكات برفض واسع من المرجعيات الشيعية داخل البحرين وخارجها. فقد أدان كبار علماء الدين الشيعة هذه الأفعال، واعتبروها “تدميرًا وقحًا” لرموز دينية وثقافية، وطالبوا بإعادة إعمار المساجد والأضرحة وتعويض المجتمعات المتضررة.

أما جمعية الوفاق المعارضة، فقد أكدت أن الكثير من المساجد المهدمة لها تاريخ طويل، متحدية مزاعم السلطات بأنها مبانٍ غير مرخصة.

دوليًا، أعربت منظمات حقوقية مثل “حقوق الإنسان أولًا” عن قلقها، محذرة من أن هدم المساجد “لن يؤدي إلا إلى تأجيج التوترات الطائفية”. حتى الإدارة الأمريكية، في عهد الرئيس أوباما، أبدت قلقها العلني من هذه السياسات، التي تُعد انتهاكًا صارخًا لحرية المعتقد والحقوق الدينية المنصوص عليها في المواثيق الدولية.

الوعود الحكومية: إعادة إعمار أم تمييع للمشكلة؟

بعد الضغوط الداخلية والدولية، تعهدت السلطات البحرينية بإعادة بناء عشرات المساجد بحلول أوائل عام 2012. لكن التنفيذ جاء متعثرًا وغير مكتمل. فلا تزال العديد من المواقع مدمرة، وبعضها أعيد بناؤه في مواقع بعيدة عن أحيائها الأصلية، مما أفقدها وظيفتها الروحية والاجتماعية.

في السياق الشيعي، للمساجد والحسينيات والأضرحة وظيفة تتجاوز العبادة؛ إنها فضاءات للتجمع الاجتماعي، وصياغة الوعي الجمعي، وحفظ الذاكرة التاريخية. لذا فإن إعادة بناء مسجد بعيدًا عن حيه الأصلي لا يداوي الجرح، بل يكرس الفصل المكاني والرمزي بين المجتمع وماضيه.

عنف يهدد الاستقرار المجتمعي

إن استمرار سياسات هدم المواقع الدينية واستهداف الهوية الشيعية في البحرين يفاقم مناخ عدم الثقة، ويزيد التوترات الطائفية، ويهدد أسس التعايش الوطني.

فالعنف الرمزي لا يقل خطرًا عن العنف الجسدي، لأنه يستهدف الروح والذاكرة والهوية، ويؤسس لحالة قمع نفسي طويل الأمد.

إن البحرين، إذا كانت جادة في بناء مجتمع متماسك ومتصالح، لا بد أن تعترف قانونيًا بالمواقع الدينية الشيعية كجزء من تراثها الوطني. يجب دمج تاريخ البحارنة والعجم في المناهج التعليمية، وإبراز إسهاماتهم في بناء البلاد، وفتح الإعلام الرسمي أمام تعددية الروايات الدينية والثقافية.

كما أن دعوة مراقبي الأمم المتحدة إلى زيارة البلاد، وتوثيق حالة الحريات الدينية، ستكون خطوة مهمة نحو بناء الثقة، وضمان عدم تكرار هذا العنف الرمزي الذي لا يستهدف مباني فحسب، بل يستهدف وجود أناس بأكملهم.

في النهاية، إن إنصاف مجتمعات البحارنة والعجم لا يتعلق فقط بحقوق أقلية، بل بمستقبل البحرين نفسها كدولة تتسع لكل أبنائها، دون تمييز أو محو أو إقصاء.

Exit mobile version