البحرين: سياسة مصادرة بإرادة القصر و”دولة الغرفة الواحدة” تعيد إنتاج المأزق

لم تمت السياسة في البحرين “طبيعيًا” بل تم اغتيالها على مراحل، وبقرارٍ مركزي خرج من داخل أسوار القصر، بحيث أن من يملك القصر يملك مفاتيح اللعبة نتيجة واقع مؤسسات تُدار من غرفة واحدة، بإرادة واحدة، وكلمة واحدة.

ويمثل ذلك خلاصة مسارٍ تشكّل منذ إعادة تفصيل الدستور عام 2002، حين صيغت معادلة تجعل الشعب ليس مصدر السلطات، وتُقحم الملك شريكًا إجباريًا في التشريع عبر مجلسٍ معيّن يملك عمليًا حق النقض على البرلمان المنتخب. منذها، ترسّخت “ديمقراطية الديكور”: صناديق اقتراع تحسمها هندسة مسبقة، وبرلمان يواجه مجلس شورى أقوى عددًا ونفوذًا.

والضربة القاضية للحياة السياسية جاءت علنًا. في 2016 حُلّت جمعية الوفاق، كبرى قوى المعارضة، بقرار قضائي حمل الرسالة الأوضح: لا مكان لكتلة قادرة على قول “لا”. وبعد عام، أُغلقت جمعية وعد، آخر جسر سياسي عابر للطوائف، فتكرّس البرلمان غرفة صدى لخطاب القصر. لم تكن التهم أكثر من غطاءٍ قانوني؛ الجريمة الحقيقية كانت امتلاك الجرأة على المعارضة المنظمة.

قانون العزل السياسي

تلت ذلك خطوة هندسية–انتخابية حاسمة تمثلت بقانون العزل السياسي (2018)، الذي يجرّم الماضي ويعدم المستقبل الانتخابي لكل من انتمى إلى جمعية مُنحلّة أو حوكم في قضايا سياسية.

النتيجة معروفة سلفًا: اقتراعٌ مُعقَّم، قوائم بلا تنافس، وبرلمان منزوع المعارضة. على الضفة الإعلامية، أُطفئ الضوء الأخير بإغلاق صحيفة الوسط عام 2017، في تجريمٍ للمرآة بذريعة “الإساءة” و”الأخبار الكاذبة”. بإسكاتها، اختنق المجال العام؛ ومنذ ذلك اليوم، يتنفس الإعلام المحلي هواء البلاط وحده.

لكن الأمر تجاوز إعدام السياسة وإسكات الصحافة إلى العبث بأصل الرابطة بين المواطن والدولة.

ومنذ 2012، جُرّد مئاتٌ من الجنسية؛ بعضهم رُحِّل، وآخرون تُركوا في وطنٍ بلا صفة قانونية. إنها هندسة اجتماعية لا سياسة عامة: رسالة ردع وجودي تفيد بأن الولاء السياسي شرط للمواطنة، لا العكس.

وعلى المستوى الانتخابي، جرى تلاعب منهجي بالدوائر: دوائر ضخمة تحشر عشرات الآلاف وأخرى مصغّرة “مدللة”، في ميزان مائل يضمن أغلبيةً مُصنعة سلفًا.

مساحة مدنية مُغلقة

تقارير المنظمات الدولية ليست انطباعات معارضة، بل توثيقٌ متكرر لنمط الحكم: انتخابات غير تنافسية، قضاء غير مستقل، ومساحة مدنية مُغلقة.

وفيما يُصرّ خطاب السلطة على ثنائية “الأمن والاستقرار” و”التهديدات الخارجية”، يطرح الواقع سؤالًا بسيطًا وقاسيًا: أيُّ أمنٍ يبنى على خنق السياسة؟ وأيُّ استقرارٍ يراهن على إقصاء طيف واسع من المجتمع؟ الأمن الذي يُستدعى لتبرير المنع يتحوّل قيدًا دائمًا، والاستقرار يصبح سكونًا هشًا يسبق الانفجار.

اقتصاديًا–اجتماعيًا، ثمن هذا النموذج يتراكم. بيئة الأعمال تستثمر في اليقين المؤسسي قبل أي شيء؛ وحين تُحكم الدولة بمنطق غرفة القرار الواحدة، تتآكل الثقة: قواعد اللعبة تتغيّر بالمرسوم، ودورة السياسات العامة لا تمر عبر برلمانٍ يفحص ويحاسب.

وهذا يضعف قابلية التنبؤ، ويزيد علاوة المخاطر، ويجعل أي إصلاح اقتصادي–مالي حقيقي رهينة إرادة فوقية لا تعاقد اجتماعي حولها. كما أن هندسة الدوائر و”تعقيم” الانتخابات يقطعان القنوات السلمية لامتصاص السخط وإعادة تدوير النخب، فتتكدّس طاقة احتجاج مؤجلة.

أمنيًا، ليس في التاريخ الحديث نظامٌ نجح طويلًا في إدارة مجتمعٍ متنوع عبر حصرية القرار وتجريم المعارضة من دون كلفة عالية. حين تُقفل السياسة، تتكاثر منافذها تحت الأرض؛ وحين تُمنع الصحافة، يتضخم اقتصاد الشائعة؛ وحين تُختزل المواطنة إلى وثيقة قابلة للسحب، يصبح الولاء مفاضلة اضطرارية لا ثقة وطنية. هكذا تُصنع هشاشة بنيوية: دولة تبدو صلبة في ظاهرها الأمني لكنها مجوّفة في عقدها الاجتماعي.

خارطة الخروج واضحة وليست رفاهية:

إلغاء فوري لقوانين العزل السياسي وإعادة الحقوق المدنية والسياسية لمن سُحبت منهم.

رفع الحظر عن الجمعيات السياسية وإلغاء قرارات الحلّ التعسفية، وفتح مسار قانوني لتأسيس أحزابٍ عابرة للطوائف.

تحرير المجال الإعلامي بضمانات قانونية لسلامة الصحفيين واستقلالية المؤسسات.

إنهاء إسقاط الجنسية وجبر الضرر للضحايا، باعتبار المواطنة حقًا أصيلًا لا أداة ضبط.

إعادة رسم الدوائر الانتخابية وفق معايير العدالة والمساواة العددية، وتأسيس هيئة مستقلة للانتخابات.

تحصين استقلال القضاء بإلغاء التدخلات التنفيذية، وإعادة النظر في تشريعات محاكمات الرأي.

إطلاق حوار وطني بمشاركة المعارضة المُستبعدة، بجدول زمني لانتقالٍ سياسي يُعيد تعريف الشراكة لا الولاء.

المعادلة ليست صفرية: ليس مطلوبًا من القصر أن يتنازل عن أمنٍ مُهدّد، بل عن احتكار السياسة. فالدولة لا تُدار كغرفة عمليات دائمة، بل كعقدٍ اجتماعي متّسع يُوزّع المخاطر ويُشرعن القرار.

فالبحرين لا تحتاج مسرحية انتخابات، بل مؤسساتٍ تُنتج سياسة، ومواطنةً تُنتج ثقة. وإلا، فإن “السجن” الذي يحتجز السياسة اليوم قد يتسع غدًا للجميع—حين تمتد كلفة الانسداد إلى الاقتصاد والمجتمع والأمن معًا.

الوقت لم يفت بعد. غير أن كل يومٍ يمضي في دولة الغرفة الواحدة يزيد الكلفة ويقلّص هوامش المناورة. والمفارقة أن ما يبدو سيطرةً مُحكمة إنما يزرع بذور الاضطراب: فمن دون قنواتٍ شرعية للتعبير والمحاسبة، لا استقرار يدوم، ولا تنمية تُزهر.

والبحرين تستحق سياسةً حية لا “جثةً محنطة” في ثلاجة القصر—وهذا، في نهاية المطاف، هو الفارق بين أمنٍ وطني مستدام، وهدوءٍ مؤقت يسبق العاصفة.

Exit mobile version