في كل مناسبة دولية، لا تفوّت السلطة البحرينية الفرصة لإبراز وجه ناعم تدّعي من خلاله احترامها التعددية والحريات وحقوق الإنسان.
فسواء كان اليوم العالمي للتسامح، أو اليوم الدولي لحرية الصحافة، أو كما حدث مؤخرًا في اليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية، تنتدب البحرين أحد كبار مسؤوليها ليخاطب العالم بلغة مثالية بعيدة كل البعد عن واقع البلاد الداخلي.
رئيس مجلس النواب البحريني، أحمد المسلم، خرج بتصريح بمناسبة هذا اليوم العالمي ليقدّم البحرين كنموذج رائد في احترام التعددية والتنوع الثقافي، زاعمًا أن المملكة تسير على نهج مستدام في الانفتاح والحوار، بما يخدم أهداف التنمية الأممية ويعزز جسور التواصل بين الشعوب.
لكن الحقيقة أن هذه اللغة المنمّقة لا تعكس سوى قشرة دبلوماسية تحاول من خلالها المنامة خداع الرأي العام الدولي، فيما الواقع الداخلي يعجّ بالتمييز والإقصاء وانتهاك الحقوق الأساسية، وهي ممارسات باتت موثقة ومعروفة للمنظمات الحقوقية حول العالم. فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا: عن أي تعددية يتحدث النظام البحريني؟
تعددية في الخطاب فقط
لا يحتاج الأمر إلى عناء كبير لتفكيك زيف هذه المزاعم. فتاريخ البحرين الحديث، لاسيما منذ انتفاضة 2011، يرسم مشهدًا قاتمًا من القمع المنهجي الموجّه بالأساس نحو المكوّن الشيعي في البلاد، فضلاً عن كل صوت معارض أو مستقل.
في هذا السياق، يمكن طرح سلسلة من الأسئلة التي تكشف التناقض الفجّ بين ما يُقال على المنابر الدولية وما يُمارس فعليًا على أرض الواقع:
هل سجن رموز المعارضة، كعبدالوهاب حسين وعبدالجليل السنكيس والشيخ علي سلمان، يمثل احترامًا للتعددية؟
هل إسقاط جنسيات مئات المواطنين لمجرّد مواقفهم السياسية والدينية تجسيدٌ للتنوع؟
وهل طرد المعارضين ونفيهم خارج البلاد يعكس حوارًا مع المختلف؟
هل تقييد حرية الصحافة، وإغلاق الصحف المستقلة مثل “الوسط”، هو أحد أشكال التنوّع الثقافي؟
ثم هل تهميش طائفة بأكملها من المؤسسات الأمنية والعسكرية والإدارية الكبرى هو “نموذج رائد” للتعايش؟
الإجابة الواضحة والبسيطة: لا. بل على العكس، إن الواقع البحريني يقوم على مأسسة التمييز الطائفي، وتهميش الصوت المختلف، وملاحقة كل ما لا يخضع للرؤية السياسية للنظام.
التعددية كأداة دعائية
خطاب أحمد المسلم، وغيره من مسؤولي النظام، ليس جديدًا. إنه جزء من حملة علاقات عامة طويلة الأمد، تستهدف تجميل صورة البحرين في المحافل الدولية، لا سيما أمام المؤسسات الغربية، عبر الحديث عن التسامح والانفتاح والتعددية.
وهذا يتّضح أكثر من خلال المشاريع الشكلية، مثل “مركز الملك حمد للحوار بين الأديان”، أو تنظيم ندوات عن التعايش، في الوقت الذي تُضيَّق فيه المساجد وتُحاصَر الشعائر الدينية، خصوصًا في المناسبات الشيعية كعاشوراء.
وهنا تبرز إشكالية جوهرية: الدولة البحرينية لا تكتفي بممارسة القمع، بل تحاول إقناع العالم بأن ذلك القمع هو نوع من “الاستقرار” أو “حماية الهوية الوطنية”، فيما هي تُمعن في إقصاء مكونات رئيسية من المجتمع البحريني، وتصادر فضاءه السياسي والديني والثقافي.
منذ الحراك الشعبي في 2011، عاشت البحرين أزمة سياسية عميقة لم تُحل حتى الآن، بل تفاقمت مع مرور الوقت.
السلطة الخليفية اختارت الرد على المطالبات الشعبية بمزيد من القبضة الأمنية، وبسنّ قوانين طوارئ دائمة، وتوسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية، واللجوء إلى المحاكمات العسكرية، ما أدى إلى حالة من الانفصال الكامل بين الدولة والمجتمع.
في ظل هذا الواقع، أي حديث عن تعددية يبدو ضربًا من الخيال. فكيف تكون هناك “آفاق أرحب من الحوار والتفاهم”، بحسب ما قاله المسلم، فيما الحوار الداخلي غائب بالكامل، والحياة السياسية مجمّدة، والجمعيات المعارضة تم حلّها، والمجتمع المدني مُرتهن بالكامل لإرادة النظام؟
ما وراء الخطاب الرسمي
المفارقة أن المنامة ما تزال تعتقد أن بوسعها تسويق هذه الصورة المصطنعة، على الرغم من أن المجتمع الدولي بات يدرك طبيعة الأزمة في البحرين.
تقارير منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، والبرلمان الأوروبي، كلها وثّقت السياسات القمعية المتبعة، ودعت مرارًا البحرين للإفراج عن السجناء السياسيين، وإنهاء التمييز الطائفي، وفتح المجال أمام الإصلاح السياسي.
في هذا السياق، فإن محاولة إقناع العالم الخارجي بأن كل شيء على ما يرام ليست مجرد فشل أخلاقي، بل أيضًا قراءة ساذجة للتغيرات في مواقف العواصم الغربية. صحيح أن بعض الحكومات لا تزال تغلّب المصالح الاقتصادية والأمنية، لكن ذلك لم يمنع تصاعد الأصوات المنتقدة للبحرين، بما فيها داخل الكونغرس الأميركي والبرلمان البريطاني.
نحو الاعتراف بالحقيقة
ما تحتاجه البحرين ليس المزيد من الخطب الرسمية، ولا المزيد من المبادرات الشكلية، بل مواجهة الواقع بجرأة. أي إصلاح حقيقي يبدأ بالاعتراف بوجود أزمة بنيوية في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبأن سياسة القمع لا تصنع استقرارًا دائمًا، بل تخلق احتقانًا متراكمًا وانعدامًا للثقة.
التعددية لا تتحقق بالبيانات والشعارات، بل بإعادة الاعتبار للمواطن، واحترام خياراته السياسية والدينية والفكرية، وفتح المجال العام أمام كل المكونات دون تمييز. حتى ذلك الحين، ستبقى مزاعم التعددية مجرد واجهة مخادعة، وسرابًا يُسوّق في الخارج بينما الداخل يئنّ تحت وطأة القمع والتمييز.