تبرز البحرين منذ سنوات كنموذج واضح لاستخدام التشريعات الأمنية ذات الصياغات الفضفاضة كأداة سياسية لقمع المعارضة، وليس كوسيلة حقيقية لمكافحة الإرهاب.
فبدل أن تُوظَّف القوانين الاستثنائية لحماية المجتمع من أخطار محددة ومُعرَّفة بدقة، جرى تحويلها إلى منظومة قانونية مرنة بيد السلطة، تُستخدم لتجريم الرأي، وملاحقة النشاط الحقوقي، وإسكات أي صوت ناقد، خصوصًا في الفضاء الرقمي.
ويشكّل قانون جرائم تقنية المعلومات البحريني الصادر عام 2014 حجر الزاوية في هذا النهج القمعي.
فالقانون يحتوي على تعريفات شديدة الغموض لمفاهيم مثل “الإساءة”، و“الإضرار بالمصلحة العامة”، و“تهديد النظام العام”، وهي مصطلحات لا تخضع لأي معايير قانونية دقيقة.
ويعكس هذا الغموض تصميمًا مقصودًا يسمح للسلطات بتفسير النصوص وفقًا لحاجتها السياسية، وتوسيع دائرة التجريم لتشمل التعبير السلمي، والنشاط الحقوقي، وحتى التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي.
في هذا السياق، تلعب هيئة تنظيم الاتصالات دورًا محوريًا في تحويل القانون من نص جامد إلى أداة مراقبة فعالة.
فالهيئة لا تكتفي بتنظيم قطاع الاتصالات من الناحية التقنية، بل تُستخدم كجهاز رقابي لمتابعة المحتوى الرقمي، ورصد الحسابات الناقدة، وجمع البيانات التي تمكّن الأجهزة الأمنية من تحديد المعارضين واستهدافهم قضائيًا.
وبهذا، تتحول الرقابة الرقمية إلى سياسة دولة ممنهجة، تُخضع المجال العام الافتراضي لمنطق أمني صارم، وتُفرغ الإنترنت من دوره كمساحة للنقاش العام والمساءلة.
الأخطر من ذلك هو التداخل المتعمد بين قانون جرائم تقنية المعلومات وقانون مكافحة الإرهاب. فالقانون الأخير ينص على أن أي نشاط يُعتبر “مضرًا بالوحدة الوطنية” يمكن تصنيفه كعمل إرهابي، بما في ذلك الأنشطة التي تُمارَس عبر الإنترنت.
وتعد هذه الصياغة من أخطر الأدوات القانونية في الترسانة البحرينية، لأنها ترفع سقف العقوبة من جنحة رأي أو مخالفة نشر إلى جريمة إرهابية، بما يترتب عليها من أحكام قاسية، وتجريد من الحقوق، وإجراءات استثنائية.
ومصطلح “الوحدة الوطنية” هنا لا يُستخدم كمفهوم جامع يحمي التعدد والتعايش، بل كأداة إقصاء سياسي. فكل خطاب ينتقد الحكومة، أو يطالب بالإصلاح، أو يكشف انتهاكات حقوق الإنسان، يمكن وصمه بأنه “يضر بالوحدة الوطنية”، ومن ثم إدخاله قسرًا في إطار “الإرهاب”.
وبهذا، تُمحى الحدود بين المعارضة السلمية والعنف، ويُعاد تعريف الإرهاب ليشمل الكلمة والموقف، لا الفعل الإجرامي.
ويتناقض هذا الاستخدام الموسع والمسيّس للقوانين بشكل صارخ مع الدستور البحريني نفسه.
فالدستور ينص نظريًا على حماية حرية التعبير، سواء على الإنترنت أو خارجه، لكنه يستثني عمليًا أي نقد للحكومة أو مؤسساتها.
وهذا الاستثناء ليس تفصيلاً قانونيًا ثانويًا، بل هو ثغرة جوهرية تُفرغ الحق الدستوري من مضمونه، وتحوّل حرية التعبير إلى امتياز مشروط بالولاء السياسي. والنتيجة هي فرض رقابة شاملة على المجتمع، مع تحصين السلطة من أي مساءلة حقيقية.
والأمر لا يتوقف عند الإطار الدستوري الوطني، بل يمتد إلى الالتزامات الدولية التي تعهدت بها البحرين. فالمملكة صادقت على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي تنص المادة 19 منه بوضوح على حماية حرية التعبير، بما في ذلك الحق في “تلقي ونقل المعلومات والأفكار من دونما اعتبار للحدود وبأية وسيلة”.
غير أن الممارسة الفعلية على الأرض تكشف انتهاكًا منهجيًا لهذه الالتزامات، حيث تُستخدم القوانين المحلية لتقويض المعايير الدولية التي يفترض أن تكون مُلزِمة.
وتؤكد منظمات حقوقية أن قمع المعارضة في البحرين، خصوصًا في الفضاء الرقمي، لا يمكن فصله عن استراتيجية أوسع تهدف إلى إغلاق المجال العام، وتجفيف منابع النقد، وخلق بيئة من الخوف الذاتي.
فحين يصبح التعبير عن الرأي مخاطرة قانونية، وحين تُربط الكلمة بتهمة الإرهاب، يتحول الصمت إلى خيار أمني، لا موقفًا سياسيًا. وهذا بالضبط ما تسعى إليه هذه القوانين: ليس فقط معاقبة المعارضين، بل ردع المجتمع بأكمله عن التفكير في المعارضة.
في المحصلة، لا تعكس القوانين البحرينية لمكافحة الإرهاب وجرائم تقنية المعلومات التزامًا حقيقيًا بالأمن أو الاستقرار، بل تكشف عن نموذج سلطوي يستخدم التشريع كوسيلة للسيطرة السياسية.
ومع استمرار هذا النهج، تتآكل شرعية القانون نفسه، ويتحول من أداة عدالة إلى أداة قمع، في انتهاك واضح للدستور، وللالتزامات الدولية، ولأبسط مبادئ حقوق الإنسان.
