كذبة الإصلاح الديني المكشوفة في البحرين: حين تتواطأ الدولة مع الخراب

تعود سلطة النظام الخليفي الحاكم في البحرين إلى لعبة الإصلاح الشكلي هذه الأسابيع، محاوِلة تجميل وجهها القبيح عبر ما تسميه “خطة تأهيل المساجد”، وهي حملة إعلامية كثيفة أطلقها ولي العهد سلمان بن حمد لترميم 40 مسجدًا، موزّعة على إدارتي الأوقاف السنية والجعفرية.

لكن خلف هذا المظهر البراق، تختبئ الحقيقة الأكثر فظاعة: الدولة تتجاهل عمدًا إعادة بناء 38 مسجدًا شيعيًا كانت قد دمرتها خلال فترة الطوارئ بعد انتفاضة 2011.

هذه المفارقة ليست تفصيلًا عابرًا، بل تجسيد فجّ لطبيعة النظام البحريني، الذي لا يزال يُدير الشأن الديني بمنطق الهيمنة والإقصاء الطائفي.

فالخطة التي طُرحت وكأنها مشروع “تصالحي” و”جامع”، تعمدت استثناء المساجد التي هدمتها آليات القمع، تلك التي كانت رمزًا لمجتمع واجه سنوات من القمع، ولم يُمنح حتى حق الحداد على أطلال مقدساته.

تدشين الإنكار بدلًا من الترميم

منذ الإعلان عن الخطة، سارعت وسائل الإعلام الرسمية إلى تضخيم الخبر، وتقديم الترميمات على أنها “نهضة دينية” ترعاها القيادة السياسية. ولكنّ غياب أي إشارة رسمية إلى المساجد المهدّمة عام 2011، ليس سهوًا، بل تعبير دقيق عن خيار سياسي واضح: إسقاط الماضي من الذاكرة الوطنية.

بمعنى آخر، لا يهمّ أن تلك المساجد كانت مبنية بجهود شخصية من الأهالي، ولا أن هدمها أثار تنديدًا دوليًا واسعًا في حينه، ولا أن القائمين عليها لا يزالون يتعرضون للمضايقات؛ فالدولة لم تعتذر، ولم تحاسب أحدًا، وها هي تمضي في تجاهلها المتعمّد، عبر سياسة الإهمال الانتقائي التي تقوم على الاعتراف بما يخدم مصالحها، وإنكار ما يُهدد سرديتها.

مكياج طائفي لوجه الدولة الأمني

الهدف الحقيقي من هذه الحملة، إذًا، ليس بناء المساجد من أجل التديّن أو الحرية الدينية، بل إعادة هندسة الحقل الديني بما يتلاءم مع خطط النظام لضبط المجتمع ومراقبته.

فالمساجد المختارة للترميم تخضع بالكامل لسيطرة إدارتي الأوقاف الرسميتين، اللتين لا تمثلان حقيقة التنوّع الديني، بل تعكسان توازنات السلطة الطائفية. أما المساجد التي نشأت خارج هذه السيطرة، وبنيت بهِمم الناس واستقلالهم، فمصيرها النسيان أو الهدم.

هذا ليس إصلاحًا دينيًا، بل عسكرة للفضاء العبادي. وهو امتداد لمنطق النظام الذي يرى في الدين أداة ضبط اجتماعي، لا حقًا من حقوق الناس.

لذلك، فإنّ “خدمة المساجد” تعني فعليًا تكريس الانقسام، لا رأب الصدع، وتعني إخضاع الطائفة الشيعية للمزيد من الترويض الرمزي عبر استبعاد رموزها الدينية ومواقعها من أي مشروع وطني جامع.

عدالة غائبة، وظلم مؤسسي

لا يمكن الحديث عن إصلاح ديني في بلد لا يوجد فيه قضاء مستقل، ولا شفافية في إدارة الأوقاف، ولا مساواة في التمثيل داخل المؤسسات الدينية.

فالنظام الخليفي يرفض الاعتراف حتى بوجود أزمة طائفية، ويُصر على محو أيّ أثر للتمييز البنيوي الذي تتعرض له الطائفة الشيعية في الوظائف، والتعليم، والإعلام، والأمن، والفضاء الديني.

وأي حديث عن إصلاح حقيقي يجب أن يبدأ من المحاسبة على جريمة هدم المساجد، ومن إقرار الدولة بمسؤوليتها عن الإهانة الرمزية التي وجهتها إلى جزء كبير من شعبها. أما أن تشرع في بناء مساجد جديدة بينما ترفض إعادة ما دمرته عمدًا، فهو تكريس للتمييز لا تجاوزه.

كما أن الشفافية المفقودة في إدارة الأوقاف الجعفرية والسنية على حدّ سواء، تُظهر أن الدولة لا تريد مؤسسات دينية مستقلة، بل إدارات طيّعة تتبع التعليمات، وتتجنّب الخوض في ملفات الحقوق والعدالة. فالمسألة ليست فقط طائفية، بل تتعلق أيضًا بتجريف أي صوت مستقل، حتى داخل المذهب الرسمي للدولة.

الخطاب الديني تحت رقابة المخابرات

في السنوات الأخيرة، ازداد التضييق على الخطباء الشيعة، ومنعت السلطات عشراتهم من إلقاء خطب الجمعة، خاصة في المساجد التي تشهد حشودًا كبرى.

صلاة الجمعة المركزية في الدراز لا تزال محاصرة، وموقعها الجغرافي مُراقب، وخطبها تخضع للتدقيق الأمني، مما يثبت أن الدولة لا تعترف بحرية العبادة كمبدأ، بل كمنحة مؤقتة قابلة للسحب في أي لحظة.

في هذا السياق، فإنّ ما تسميه الدولة بـ”خطة إعمار المساجد”، يُمكن اعتباره إعادة تشكيل المشهد الديني بما يخدم الأمن السياسي، لا الدين أو المجتمع. وبناء المساجد وفق “الخطة المعتمدة”، يعني حرفيًا بناء مواقع صلاة لا تزعج السلطة، ولا تتيح مجالًا للنقد، ولا تعكس التنوع الحقيقي للمجتمع.

نحو إصلاح حقيقي: خارطة طريق مغيّبة

الإصلاح الديني في البحرين لا يبدأ من مشاريع ترميم شكلية، بل من خطوات واضحة وجذرية، منها:

الاعتراف بجريمة هدم المساجد عام 2011، وتعويض المتضررين.

إعادة بناء المساجد التي دُمرت بموجب قرار سياسي، لا وفق مزاج الدولة.

ضمان تمثيل عادل للطوائف في مؤسسات الأوقاف، وتحديد صلاحياتها بموجب قانون مستقل.

فتح المجال لخطاب ديني متنوع، غير خاضع للرقابة الأمنية.

تحقيق استقلال القضاء، ووقف استخدامه كأداة في الصراعات الطائفية.

بدون هذه الخطوات، لا معنى لأي خطة “إعمار”، بل تكون مجرد محاولة للطمس والتبييض، لا أكثر.

Exit mobile version