صمت البحرين أمام مشروع “إسرائيل الكبرى”: تطبيعٌ يعلو على السيادة والقضية

في اللحظة التي كان يُنتظر فيها موقف عربي واضح وصريح، آثرت البحرين الصمت أمام ما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن مشروع “إسرائيل الكبرى” الذي يبتلع كامل فلسطين التاريخية وأجزاء من لبنان وسوريا والعراق والسعودية ومصر والكويت.

ورغم خطورته المباشرة على السيادة العربية والخليجية، لم يصدر عن المنامة أي بيان مستقل يدين أو حتى يعلّق على هذه التهديدات، مكتفية بتوقيع جماعي على بيان مشترك لوزراء خارجية 31 دولة عربية وإسلامية، في خطوة وُصفت بأنها محاولة “لرفع العتب” أكثر مما هي موقف سياسي مسؤول.

سقوط مدوٍّ للدبلوماسية البحرينية

هذا الصمت، أو بالأحرى التغاضي المتعمّد، يمكن اعتباره سقوطًا مدويًا للسياسة الخارجية البحرينية.

فالدول، حتى الصغيرة منها، تُقاس بقدرتها على التعبير عن مواقفها المبدئية تجاه التهديدات الكبرى.

ولو أرادت البحرين أن تحافظ على الحد الأدنى من المصداقية، لكان بإمكانها إصدار بيان مقتضب يوضح موقفها من مشروع نتنياهو التوسعي، على غرار ما فعلت دول خليجية أخرى.

السعودية، على سبيل المثال، خرجت ببيان رسمي عالي النبرة رفضت فيه بشدّة الأفكار الاستيطانية والتوسعية، مؤكدة الحق التاريخي والقانوني للشعب الفلسطيني، ومحذرة من تهديد الأمن والسلم الإقليمي والدولي.

كذلك فعلت الإمارات وقطر وسلطنة عُمان والكويت، حيث دانت بوضوح مشروع “إسرائيل الكبرى”. أما البحرين، فقد نأت بنفسها عن الإجماع الخليجي واكتفت بالانزواء في ظل بيانات الآخرين.

التطبيع في مواجهة التضامن العربي

لا يمكن فصل هذا الصمت البحريني عن سياق اتفاقيات أبراهام التي وقّعتها المنامة عام 2020، والتي دشّنت مسار التطبيع الرسمي مع إسرائيل.

اليوم يبدو أن البحرين باتت أكثر حرصًا على عدم إغضاب نتنياهو وحكومته من حرصها على إظهار التضامن مع القضايا العربية، بل حتى مع مصالحها الإقليمية المباشرة.

فمشروع “إسرائيل الكبرى” لا يهدد الفلسطينيين فقط، بل يضع خرائط توسعية تتجاوز حدود فلسطين إلى لبنان والأردن وسوريا والعراق والسعودية ومصر والكويت. أي أن البحرين، بصمتها، تغض الطرف عن مشروع يطال جغرافيًا دول الخليج نفسها.

المنامة تبدو وكأنها تبنّت سياسة “اعمل نفسك ميت”، لتجنب أي إحراج مع حليفها الجديد في تل أبيب. فالحفاظ على مسار التطبيع، بالنسبة للسلطة البحرينية، أولى من أي التزام عربي أو قومي أو حتى خليجي.

انفصام في السياسة الخارجية

هذا الأداء يعكس بوضوح انفصام السياسة الخارجية البحرينية. فعندما يتعلق الأمر بالاستعراض الدبلوماسي أو توقيع صفقات تسليح بمئات الملايين مع واشنطن أو الدول الأوروبية، تُسارع المنامة إلى إبراز حضورها وتأكيد موقعها على الخريطة الدولية.

لكن حين يُطرح تهديد مباشر لكيان الدول العربية، أو تُمسّ قضية فلسطين، أو تُعلن مشاريع توسعية صهيونية تمس الأمن القومي الخليجي، يغيب الصوت البحريني تمامًا.

هنا تكمن المفارقة: البحرين التي لا تتردد في الحديث عن “الالتزام بالسلام” و”الحرص على القضايا العربية” حين يكون الكلام مجانياً، تتوارى عن المشهد عندما يصبح المطلوب موقفًا عمليًا ولو في حدود إصدار بيان رسمي.

الرأي العام البحريني: ثبات في المبدأ وتجاهل رسمي

الأكثر لفتًا للنظر أن الرأي العام البحريني ظلّ ثابتًا على تعاطفه التاريخي والمبدئي مع القضية الفلسطينية. الشارع البحريني، على اختلاف مكوناته، كان دائمًا من أكثر الشوارع العربية حراكًا في التضامن مع فلسطين، وشارك في انتفاضات وتظاهرات على مدى عقود.

لكن النظام الحاكم في المنامة اختار عمدًا تهميش هذا المزاج الشعبي. فالصمت الرسمي أمام نتنياهو لا يُقرأ فقط كخضوع لضغوط إسرائيلية أو أميركية، بل أيضًا كرسالة داخلية: أن الحكومة البحرينية لم تعد تبالي برأي مواطنيها، حتى لو كان الرأي العام أكثر حرصًا على فلسطين من حرص حكومته.

هنا يصبح السؤال: كيف يمكن تفسير أن حكومة آل خليفة أضحت أكثر حرصًا على مشاعر نتنياهو من مشاعر شعبها؟

ويدرك الجميع أن البحرين ليست من الدول القادرة على ممارسة ضغط فعلي على إسرائيل، ولا تمتلك وزنًا سياسيًا يغيّر موازين القوى.

لكن لم يكن مطلوبًا منها سوى موقف سياسي أخلاقي يعبّر عن الحد الأدنى من الرفض. حتى دولة صغيرة، حين تعلن موقفها، تستطيع تسجيله في خانة السيادة الوطنية وحماية الحد الأدنى من كرامتها الدبلوماسية.

لكن البحرين اختارت طريقًا آخر: إخفاء رأسها في الرمال، والاكتفاء بالتوقيع على بيانات جماعية لا تكلّفها شيئًا. بهذا الفعل، تكون قد أسقطت ما تبقى من أوراق التوت التي كانت تحاول تغطية علاقتها المتسارعة مع الاحتلال.

وإن صمت البحرين أمام مشروع “إسرائيل الكبرى” له تداعيات أوسع من مجرد موقف عابر. فهو يكرس صورة دولة جعلت من التطبيع أولوية مطلقة تتقدم على أمنها القومي، وعلى وحدة الصف الخليجي، وعلى واجب التضامن العربي والإسلامي.

كما أن هذا الموقف يعمّق عزلة البحرين عن محيطها الخليجي، حيث اتخذت بقية العواصم الخليجية مواقف واضحة ضد أطماع إسرائيل. والأخطر من ذلك أنه يوجّه رسالة خاطئة إلى الاحتلال: أن هناك دولاً عربية مستعدة للصمت حتى أمام مشاريع توسعية تمسّ حدودها نظريًا، مقابل الحفاظ على علاقات التطبيع.

البحرين تحت بساطير التطبيع

لقد كان بإمكان البحرين أن تحافظ على الحد الأدنى من الموقف العربي المبدئي، لكنها اختارت الصمت. والنتيجة أن هذا الصمت بدا أشبه بـ”خيانة مزدوجة”: خيانة للتضامن العربي وخيانة للرأي العام البحريني.

في لحظة تاريخية أعلن فيها نتنياهو صراحة مشروع “إسرائيل الكبرى”، الذي يهدد ليس فلسطين فقط بل نصف المنطقة العربية، اختارت البحرين أن تتوارى خلف بيانات الآخرين، لتكرس حقيقة واحدة: أن السياسة الخارجية البحرينية اليوم باتت أسيرة لاتفاقات أبراهام، وأن الحفاظ على التطبيع أصبح أهم من الحفاظ على السيادة العربية نفسها.

وبهذا، يثبت الأداء البحريني أن النظام لم يعد يملك مشروعًا وطنيًا أو قوميًّا، بل مجرد وظيفة في خدمة التطبيع، حتى ولو كان الثمن التغاضي عن أخطر مشروع استيطاني وتوسعي في تاريخ المنطقة.

Exit mobile version