من “الخبز والسيرك” إلى الإعلام الموجَّه: كيف يُخدّر النظام البحريني وعي شعبه؟

في الوقت الذي تتّجه فيه الشعوب نحو المطالبة بحقوقها السياسية والاقتصادية، تبدو البحرين وكأنها تسير في الاتجاه المعاكس، حيث أتقن النظام فنّ “تخدير الشارع” وتغيير وعي الشعب بوسائل متشابكة تجمع بين الاقتصاد والإعلام والترفيه والدين والتعليم.

ويقول مراقبون إن استراتيجية النظام الخليفي تقوم على منظومة متكاملة لإبقاء المجتمع في حالة غيبوبة ورضا مصطنع، بينما يستمر التدهور الحقيقي في المعيشة والحرية والعدالة.

إذ يُروّج النظام البحريني لخطاب اقتصادي يفيض بالوعود والمشاريع الكبرى، لكن الواقع يفضح هشاشة هذه الصورة. التقارير الرسمية تتحدث عن “نمو” و“ازدهار”، في حين يعاني المواطن من تضخّم الأسعار وتآكل الأجور وارتفاع معدلات البطالة، خصوصاً بين الشباب.

وما يُسمّى “رؤية 2030” تحولت إلى شعار تجميلي لتغطية اقتصاد ريعي يعتمد على الديون والمساعدات الخارجية أكثر مما يعتمد على الإنتاج الفعلي أو تنمية القطاعات الوطنية.

المشاريع العملاقة التي تُعلن في الإعلام، مثل “المدن الاقتصادية” و“الاستثمارات الرقمية”، تُدار غالباً كواجهات دعائية لا تمسّ حياة المواطن العادي. إنها أشبه بـ “تخدير اقتصادي” هدفه إقناع الشارع بأن الإصلاح قادم، بينما الواقع يزداد سوءاً.

الإعلام الرسمي: جهاز التخدير المركزي

إذا كان الاقتصاد يُسكّن الألم، فإن الإعلام هو المخدّر الذي يُخفي الجرح تماماً. القنوات الرسمية في البحرين تحوّلت إلى ما يشبه “غرفة عمليات” لإنتاج الوهم الوطني.

فكل خبر يُقدَّم كإنجاز، وكل أزمة تُفسَّر كمؤامرة. الصحف المحلية لا تمارس الصحافة بقدر ما تكرّس الدعاية، فيما تُستغل وسائل التواصل لتغذية الرواية الرسمية عبر جيوش إلكترونية تُهاجم أي صوت معارض أو حتى ناقد معتدل.

يُغرق الإعلام المواطن بفيض من “الأخبار السعيدة” والمحتوى الترفيهي السطحي، في مشهد يذكّر بتجربة “الخبز والسيرك” التي استخدمتها الإمبراطوريات القديمة لصرف الشعوب عن التفكير في قضاياها الحقيقية.

الترفيه.. سياسة الهروب من الواقع

سباقات الفورمولا 1، المهرجانات الموسيقية، العروض الدولية… كلها مظاهر صاخبة تُستخدم كأداة إلهاء ممنهجة. ففي ظل أزمات اقتصادية ومعيشية خانقة، يُنفق النظام الملايين على فعاليات لا علاقة لها باحتياجات المواطن اليومية.

هذه السياسة ليست مجرد “تسلية”، بل استراتيجية مدروسة لصرف الانتباه الجماعي عن الأسئلة المحرجة: أين العدالة؟ وأين فرص العمل؟ ولماذا تُنفق الدولة على المظاهر بينما المستشفيات والمدارس تعاني من نقص الموارد؟

الترفيه في البحرين لم يعد حقاً مدنياً بل أداة سياسية تُستخدم بذكاء لتوليد شعور زائف بالاستقرار والرضا.

التعليم الموجَّه: هندسة العقول الصغيرة

من أبرز مظاهر “التخدير الممنهج” أن النظام البحريني لا يكتفي بتضليل الوعي الحاضر، بل يعمل على تشكيل وعي الأجيال القادمة.

فالمناهج الدراسية تُصاغ لتُخرّج طلاباً مطيعين لا ناقدين، وتُغيب عنهم أدوات التفكير النقدي أو التحليل الاجتماعي والسياسي. التاريخ يُقدَّم كحكاية رسمية تمجّد السلطة، والمجتمع يُصوَّر كمجتمع منسجم بلا مشاكل. بهذه الطريقة، يتم إعداد أجيال تجهل حقوقها وتخاف من السؤال.

بموازاة ذلك فإن السلطة في البحرين تُتقن استخدام الانقسامات الطائفية والقبلية كصمام أمان سياسي. كلما ارتفعت الأصوات المطالبة بالإصلاح، تُثار الخلافات الداخلية ويُعاد إنتاج خطاب الكراهية، ليبقى المواطن منشغلاً بصراعات الهوية بدل صراع الحقوق.

وهكذا، يتحول الخلاف الاجتماعي إلى “دواء” سياسي يضمن للنظام استمرار السيطرة دون الحاجة إلى تقديم إصلاح حقيقي.

تمكين المرأة… شعارات بلا مضمون

تُرفع لافتات “تمكين المرأة” في كل مناسبة رسمية، لكن الواقع مختلف تماماً. لا تزال النساء البحرينيات يعانين من التمييز في الأجور، وضعف الفرص، والإقصاء من مواقع القرار.

وتُسلَّط الأضواء على حالات استثنائية – وزيرة هنا أو سفيرة هناك – لتبدو الصورة وردية، بينما آلاف النساء يعانين في الظل من البطالة وسوء المعاملة القانونية والاجتماعية. إنه “تخدير نسوي” يُستخدم لتجميل وجه السلطة أمام الخارج لا لتحرير المرأة فعلاً.

إلى ذلك يتغنّى النظام بدولة القانون، لكن العدالة في البحرين تبقى انتقائية. القانون يُستخدم أداةً للعقاب السياسي أكثر مما هو وسيلة لتحقيق المساواة. فالمعارضون يُحاكمون بسرعة البرق، بينما يُغضّ الطرف عن تجاوزات الموالين.

أما الإعلام الرسمي، فيقدّم هذه “العدالة الشكلية” كدليل على النزاهة، في حين أنها مجرد واجهة أخرى في منظومة التخدير العام.

نهاية مفعول المخدّر

تاريخ الشعوب يُثبت أن الوعي، مهما خُدّر، يستيقظ في النهاية. قد يطول النوم، لكن الحقيقة لا تختفي. البحرين اليوم تقف أمام مفترق طرق: إما أن تواجه واقعها بشجاعة وتبدأ إصلاحاً حقيقياً يلامس المواطن، أو أن تواصل سياسة التخدير حتى لحظة الانفجار.

فالمخدرات السياسية – مهما كانت براقة – لا تُبقي نظاماً إلى الأبد، ولا تُسكت شعباً بدأ يتساءل عن معنى كرامته وحقوقه ومستقبله.

وهنا يبرز التساؤل هل يمكن لنظامٍ أن يبني شرعيته على الوهم؟ ربما، لفترة من الزمن. لكن حين تنتهي الحفلات، ويخفت صخب الإعلام، ويواجه المواطن فاتورة الغلاء والظلم، ستتلاشى كل أدوات التخدير، ويبقى السؤال معلّقاً: ماذا بعد الوهم؟.

Exit mobile version