في 21 نوفمبر/تشرين الثاني صدر مرسوم ملكي رقم 68 لسنة 2022 بتشكيل مجلس الوزراء والذي كرس استمرار احتكار منصب رئاسة الوزراء للعائلة الخليفية الحاكمة.
وجاء إعلان التشكيل الوزاري الجديد مباشرة بعد نجاح المعارضة في مقاطعة الانتخابات في البحرين التي لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 35% وفق تقديراتها.
وعقب رئيس منتدى البحرين لحقوق الإنسان باقر درويش بأن المرسوم من حيث المضمون جاء عادياً، خصوصاً مع استمرار احتكار منصب رئاسة الوزراء للعائلة الحاكمة منذ إنشائه -حالياً ولي العهد- ما خلا بعض التغييرات الطفيفة التي طاولت الحقائب الوزارية.
ومن ذلك تطيير (العسكري السابق) وزير التربية والتعليم ماجد النعيمي وتسليمه مسؤولية رئاسة مركز الأرشيف الوطني كمكافأة له مع لحاظ خطورة المهمة الجديدة.
وذلك رغم مراضاته بفوز ولده علي النعيمي بمجلس النواب، وهو النائب المعروف بالصمت، بأصوات لا أحد يعرف كيف تحصّل عليها.
أمَّا الوزير «الملك» في هذه التعيينات فهو وزير الداخلية البحريني راشد عبدالله آل خليفة مع احتفاظه بموقعه لـ 18 سنة.
نادرة هي التغييرات التي تطاول المواقع القيادية في الدولة العميقة في البحرين، هل سيبدو غريباً القول بأنَّ وزير الداخلية الحالي هو الثاني فقط منذ استقلال البحرين؟.
إذ تسبّبت الحادثة الغريبة في قمع التظاهرة الضخمة التي دعا لها العلماء بعنوان: «لبيك يا حسين» في مايو/أيار 2004 بإقالة وزير الداخلية السابق الشيخ محمد خليفة آل خليفة، الذي احتكر المنصب لـ 31 سنة؛ إذ كان محسوباً على جناح رئيس الوزراء السابق خليفة بن سلمان الذي احتفظ بمنصبه (لمدة 50 سنة) حتى وفاته.
هذا من حيث الشكل العام، أمَّا في ما يتعلق بواقع المنظومة الأمنية من الداخل، فإنَّ هناك رجلاً ارتبط اسمه بتأسيس جهاز المخابرات السيّئ الصيت والسيطرة على مفاصل القرار الأمني لمدة 30 سنة وهو إيان هندرسون، الذي لا تزال بصماته في تكوين العقيدة الأمنية حاضرة لليوم، رغم وفاته منذ سنوات.
في سيرة ضابط المستعمرات البريطاني هندرسون، يرد طرده من كينيا بعد استقلالها بسبب ما قام به من حملات قمعية ضد ثوار الماوماو هناك في أكتوبر/تشرين الأول 1964 مع أربعة آخرين من الضباط، وذلك بعد تظاهرات طالبت بطردهم.
ليتم «استقدامه إلى البحرين في عام 1966 إذ قام بإعادة تشكيل القسم الخاص بمباحث أمن الدولة الذي تأسّس في عام 1957، وظل يترأس أجهزة المخابرات السرية المعنية بمتابعة السياسيين حتى عام 2000».
ما دفع الصحافة البريطانية لوصفه في التسعينيات بـ«جزار البحرين» بعد سلسلة تقارير حول تورطه في قمع المعارضة السياسية بلا هوادة.
وقد كان لسوء حظ البحرينيين أنَّ قانون أمن الدولة هو الذي أبقى هندرسون في موقعه بعد خلافاته مع العائلة الحاكمة في السبعينيات وفق بعض الوثائق البريطانية الرسمية.
فيما ما زال هناك 28 ملفاً لوزارة الخارجية البريطانية حول الزيارات الملكية إلى الشرق الأوسط في سنة 1986 لم تسمح الحكومة البريطانية بنشرها لغاية اليوم.
وهي تتناول تفاصيل الدعم البريطاني لأنظمة الخليج ومنها إخفاء ملف بعنوان «الشؤون السياسية الداخلية في البحرين» حول تفاصيل زيارة الأميرة ديانا للبحرين.
وقد حاول الباحث البريطاني المعروف مارك أوين جونز الحصول على الملفات في حراك قضائي من دون جدوى.
ومن المتوقع أن ترد في التقرير تفاصيل مرعبة حول القمع السياسي الذي كان يحظى بغطاء بريطاني من خلال رجلها في البحرين (إيان هندرسون) رغم النفي البريطاني المتكرر لهذه المعلومة.
إذ تظهر وثيقة لوزارة الخارجية البريطانية بأنَّهم كانوا يتهربون من الإجابة على أسئلة صحيفة «الديلي إكسبرس» حول نشاط هندرسون في البحرين، إلا أنَّ بعض أرشيف الوثائق البريطانية تكشف بأنَّه كان يحظى بتوجيه وعناية خاصة من السفارة البريطانية.
كما أنَّ كتاب جونز (القمع السياسي في البحرين) يورد ما أشار إليه روبرت تيش في وثيقة بريطانية غير منشورة، وتيش هو سفير بريطانيا لدى البحرين بين عامي 1975 و1979، وهو أنَّ إيان هندرسون أثّر على توصيات ستيرلينغ لدرء الثورة لدرجة أنها سمّيت: «وصفة إيان».
ووصف تيش وصفة إيان بأنها «معاهدة صداقة سعودية-بحرينية تحدّد حق كل منهما في مساعدة الآخر في الحفاظ على القانون والنظام، يليها برنامج كبير للإنفاق على الرعاية الاجتماعية».
لم يكن هندرسون بالرجل العادي، فإلى جانب بنائه لجهاز المخابرات المعروف بصيته المرعب، ومما كشفه ديريك فرانكلين، الزميل السابق لهندرسون والذي كان على خلاف معه، أنَّ هندرسون كان يتنصت على المكالمات الهاتفية للأمير السابق الشيخ عيسى سلمان آل خليفة، على خلفية اعتقال 9 مدرسين فلسطينيين منتمين إلى حركة «فتح».
كان الرجل بهذه القوة، وبنى ثروته الشخصية عبر سيرة ممتدة من الفساد المالي والإداري، حتى إنَّه كان يأخذ ما يحصل عليه من أموال تحت بند «التجنيد السري» لوضعها في جيبه.
لقد امتدت أذرع هندرسون في مفاصل الدولة، وكان الرجل الذي يفاوض قادة المعارضة في التسعينيات، وممّن يؤثرون على العلاقات الخارجية للدولة كما حصل في الاتفاق السعودي البريطاني.
لقد كان هندرسون خرّيج تجربة المستعمرات البريطانية التي استمرت على شكل صفقات بين الحكم في البحرين وبعض الشركات البريطانية الاستشارية في الجانب العسكري من قبل ضباط ومسؤولين عسكريين رفيعي المستوى أحيلوا على التقاعد، مرسخاً لمنهج مكتوم السيرة حول واقع المنظومة الأمنية في البحرين.
إلى جوار نشأة الأجهزة الأمنية، كان راشد عبدالله آل خليفة، المحسوب على الديوان الملكي، يتنقل في المناصب العسكرية في قوة دفاع البحرين، والتي أنشأها الملك الحالي -وفق ما تفصح عنه بعض الوثائق البريطانية- بالاعتماد على الولاءات القبائلية بالدرجة الأولى.
ليس شيئاً عادياً أن يعيَّن راشد قائداً للدروع الملكية في سنة 1982 وهو بعمر 28، ثم وفي ذروة قمع انتفاضة التسعينيات يتم تعيينه مساعداً لرئيس هيئة الأركان للعمليات عام 1996 ليتسلم بعد ذلك رئاستها قبل أن تحال إليه حقيبة وزارة الداخلية.
تفيد سيرة المواقع القيادية التي تولاها راشد آل خليفة، بأنَّه كان يتنقل في المناصب الأمنية التي ليست على تماس مباشر بجهاز المخابرات، إلا أنَّ تسلمه لحقيبة الداخلية بعد أربع سنوات من التقاعد المعلن -وغير المعروف التفاصيل- لهندرسون، سمح له ببناء التجربة الشخصية في مشوار قمع الحركة السياسية.
الأكيد، أنَّ راشد آل خليفة لا يمتلك الإمكانات الشخصية التي كانت لدى إيان هندرسون، فالأخير كان مؤسساً للقمع السياسي في جهاز الأمن الوطني، وصاحب نظرية مروعة تقنياً للقمع.
إلا أنَّ تركة هندرسون لم تكن باليسيرة من تشكيل مجتمع أمني من القيادات الأمنية التي راكمت خبراتها في استهداف الحركة السياسية.
الفارق في مرحلة ما بعد هندرسون، هو دخول مرحلة المقاربة الحذرة والخفية للأجهزة الأمنية في متابعة الأوضاع السياسية وتوجيه بعض الضربات الأمنية إلى المعارضة، بموازاة اشتغال خلية البندر، وذلك قبل عام 2010، إلا أنَّ سيرة القمع السياسي منذ عام 2011 تعطينا نتيجة مختلفة.
لقد استفاد راشد آل خليفة من حصيلة تراكم الخبرات في المنظومة الأمنية لأكثر من 30 سنة تحت إشراف هندرسون، إلا أنَّ طريقة اشتغال الأجهزة الأمنية بعد ذلك لا تبدو شيئاً عادياً، نحن هنا نتحدّث عن ضرب كل ما استطاعت المعارضة إيجاده بعد عام 2000 من واقع مؤسساتي.
عملياً، فقد كان أداء المؤسسة الأمنية يرتكز على التالي: نشر الرعب؛ في أشكال الاستهداف الأمني والسياسي، ملاحقة القيادات الأساسية للمعارضة والكوادر الميدانية، تحويل بعض سجون البحرين ومنها سجن جو المركزي إلى منطقة ترهيب بلا حد، كما لا حد للأرقام في تعداد الضحايا.
فأكثر من 20 ألف بحريني اعتقلوا خلال 11 سنة، والملاحقة الأمنية لم تعد تعتمد على نظام الوشايات السرية.
ففي عام 2011 تمّت الاستفادة من الوشايات العلنية في شاشة تلفزيون البحرين لضرب كل القطاعات التي تواجدت في دوار اللؤلؤة من صحافيين، رياضيين، إعلاميين، علماء دين وأكاديميين، وتفكيك الجمعيات السياسية للمعارضة.
تحوّل الخطاب الأمني للدولة إلى خطاب يقمع بلغة حقوق الإنسان؛ ورغم الإدانات الحقوقية الواسعة للقمع القاسي فقد منح وزير الداخلية صلاحية إسقاط الجنسية بقرارات إدارية.
كما لم يتم الحديث ولو لمرة واحدة بمسألة إقالته من موقعه، وفي عام 2021 كانت مكافأته هي في تعيين نجله سفيراً للبحرين لدى الولايات المتحدة الأميركية، ليكون المتابع الرئيسي هناك لاتفاقية التطبيع مع إسرائيل في عهد دونالد ترامب.
التركة التي بحوزة راشد آل خليفة من هندرسون هي تركة كبيرة، ولكن لا بأس من أن نستحضر كيف كان رحيل هندرسون.
في 13 أبريل/ نيسان 2013 توفي رئيس مباحث أمن الدولة السابق إيان هندرسون عن عمر 83 سنة، ولم يحظَ بأيّ تأبين رسمي بريطاني أو بحريني، لقد مات وحيداً، فهل يدرك وزير الداخلية ذلك؟.