في قاموس البحرين: الرأي السياسي أخطر من تقطيع الجثث!

في مفارقة صادمة ومدوية، أفرجت السلطات البحرينية مؤخرًا عن سبعة سجناء بنغاليين كانوا قد أُدينوا بجرائم قتل عمد، شملت تقطيع الجثث والتمثيل بها والتخلص منها في النفايات، وذلك عقب لقاء بين وزير شؤون الدفاع البحريني والسفير البنغلاديشي في المنامة.

ولم يكن هذا العفو ليمر مرور الكرام، خاصة في بلد لا تزال سجونه تعجّ بمئات المعتقلين السياسيين الذين لم يلطخوا أيديهم بدم، ولم يخرقوا قانونًا سوى ممارسة حقهم في التعبير والمعارضة السلمية.

هذه الواقعة، التي هزّت الشارع البحريني وأثارت غضب أهالي المعتقلين السياسيين، تكشف عن خلل عميق في مفهوم العدالة لدى الدولة، وتطرح تساؤلات حادة حول معاييرها في العفو والمعاقبة.

في البحرين، كما يبدو، الرأي السياسي جريمة لا تُغتفر، أما القتل وتقطيع الجثث فقد يُغتفر بل يُكافأ عليه بالإفراج إذا ما تطلّب الأمر مصلحة دبلوماسية أو ترتيبات خلف الأبواب المغلقة.

دولة تنتقي خصومها

المفارقة القاتلة في هذه القضية هي أن البحرين تفرّق بوضوح بين “مجرم عادي” و”مجرم سياسي”.

ففي حين تُفرج عن القتلة الحقيقيين – الذين اعترف بعضهم بالتهم المنسوبة إليهم أو وُثقت جرائمهم بأدلة دامغة – فإنها تبقي على معارضين سياسيين في السجون، بعضهم حُكم بالإعدام بعد محاكمات غير عادلة واعترافات انتُزعت تحت التعذيب، كما تشير منظمات حقوق الإنسان.

نحو 12 سجينًا سياسيًا يواجهون حاليًا خطر تنفيذ أحكام الإعدام بحقهم، في وقت تؤكد فيه الدولة البحرينية التزامها “بسيادة القانون”.

لكن أي قانون هذا الذي يتغاضى عن القتلة ويُضيّق الخناق على أصحاب الرأي والمطالبين بالإصلاح؟ وأي منطق يُقصي عن العفو مئات المعتقلين السياسيين، بينما يتسامح مع سجناء متورطين في جرائم تقشعر لها الأبدان؟

رسائل سياسية بامتياز

العفو عن السجناء البنغاليين ليس قرارًا قانونيًا فحسب، بل هو في جوهره قرار سياسي بامتياز.

هو رسالة إلى الداخل البحريني قبل الخارج، تقول فيها السلطة إنها وحدها من يملك مفاتيح الحرية والاعتقال، تُعاقب من يعارضها بالرأي، وتعفو عن المجرم إن اقتضت الظروف.

هي أيضًا رسالة تهديد مبطّنة لكل من يجرؤ على الحلم بإصلاح سياسي أو التعبير عن رأيه بحرية: “لسنا فقط لا نكافئ صوتك، بل نعتبره أخطر من جريمة قتل”. هكذا تُحوَّل المعارضة السلمية إلى جريمة كبرى، وتُصبح المطالبة بالديمقراطية أو العدالة الاجتماعية أمرًا يستحق الزجّ بصاحبه في الزنازين لعقود، أو حتى إعدامه.

سيادة الازدواجية

يظهر هذا التناقض الفج في تطبيق العدالة كعرض دائم في السياسة البحرينية، التي تعتمد على الازدواجية في التعامل مع القضايا الداخلية.

فبينما تُدافع السلطات عن “هيبة الدولة” أمام المعارضين، تُمارس أقصى درجات الخضوع عندما يتعلّق الأمر بعلاقاتها الخارجية أو حساباتها الإقليمية.

أن تُعقد جلسة حوار مع السفير البنغلاديشي بشأن سجناء أدينوا بجرائم قتل وتقطيع جثث، بينما يُحرم المعتقلون السياسيون من أدنى حقوقهم في الحوار أو التفاوض، يكشف عن حقيقة موقع الإنسان في معادلة الحكم البحريني: القيمة تُمنح حسب الولاء والمصلحة، لا حسب الحق أو العدل.

اغتيال معنوي للرموز الوطنية

الاستمرار في احتجاز ما لا يقل عن 322 سجينًا سياسيًا، بحسب آخر الإحصائيات بعد العفو الملكي في عيد الفطر، ليس فقط تجاهلاً للمواثيق الدولية التي تكفل حرية العمل السياسي والتعبير عن الرأي، بل هو أيضًا محاولة منهجية لتفريغ الحياة السياسية في البلاد من أي صوت معارض.

المعتقلون ليسوا مجرد أفراد، بل يمثلون طيفًا من القوى السياسية والاجتماعية التي حاولت منذ أكثر من عقد التعبير عن رأيها سلميًا، وكانت الدولة دومًا في موقع الجلاد.

هؤلاء السجناء هم ضحايا سياسة ممنهجة لتصفية الحياة السياسية وإقصاء كل من لا يسير في ركاب الحكم. إنها تصفية معنوية، ومحاولة لاغتيال التأثير السياسي والاجتماعي لهذه الشخصيات حتى بعد سنوات من العزل القسري داخل السجون.

السلطة المطلقة: فوق القانون وفوق الدولة

في سلوكها هذا، لا تكتفي البحرين بتجاوز القانون، بل تُكرّس فكرة “السلطة المطلقة”، حيث لا مساءلة ولا مراجعة، بل أوامر تصدر من فوق، وتنفيذ أعمى من تحت. من يملك السلطة في البحرين يرى نفسه فوق القانون، لا شريك له، لا برلمان حقيقي يُحاسبه، ولا قضاء مستقل يُقيّده. هو الخصم والحكم في آن.

إن ما يحدث ليس فقط إخلالًا بالعدالة، بل ضرب للثقة في مؤسسات الدولة. حين يشعر المواطن أن القاتل يُعفى عنه بينما يُطارد من يكتب تغريدة، فإن العلاقة بين الفرد والدولة تنكسر، ويُصبح الإحساس بالظلم جزءًا من الحياة اليومية.

وليس هناك ما يمنع السلطات البحرينية من تكرار هذا النموذج في المستقبل، إذ لم تواجه أي مساءلة دولية جدّية على هذه السياسات. الإفراج عن قتلة قد يتبعه إفراج عن مجرمين آخرين، طالما أن السياسة لا تخضع لمنطق القانون، بل لحسابات داخلية وخارجية آنية.

وفيما يُترك المعتقلون السياسيون لمصيرهم في سجون جو، تتسع الهوة بين السلطة والمجتمع، وتتآكل شرعية الحكم مع كل خطوة تبتعد فيها العدالة عن ميزانها.

Exit mobile version