رغم العفو الملكي الصادر في أبريل 2024 والذي شمل عددًا من السجناء السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في البحرين، تشير تقارير حقوقية موثقة إلى أن الإفراج لم يكن نهاية للمعاناة، بل بداية لشكل آخر من أشكال القمع المستمر والانتهاكات الممنهجة، بما في ذلك القيود على العمل والسكن والتنقل وحرية التعبير.
وفي تقرير مشترك صدر اليوم عن منظمة أمريكيون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في البحرين (ADHRB) ومنسقة مكتب البحرين في منظمة العفو الدولية بالمملكة المتحدة، أعربت المنظمتان عن بالغ قلقهما إزاء “نمط من الأعمال الانتقامية الممنهجة” تمارسه السلطات البحرينية بحق السجناء المفرج عنهم.
ويستند التقرير إلى شهادات موثقة لأربعة من أبرز النشطاء الذين أفرج عنهم: ناجي فتيل، ومحمد عبد الله السنكيس، وعلي الحاجي، ونجاح يوسف.
من السجن إلى قيد دائم
ناجي فتيل، المدافع البارز عن حقوق الإنسان، قضى 11 عامًا في السجن تعرض خلالها للتعذيب والإهمال الطبي، ليُفرج عنه بعفو ملكي في أبريل 2024.
لكن ما واجهه بعد الإفراج يعكس ما تصفه المنظمات الحقوقية بـ”الانتقال من سجن مغلق إلى سجن مفتوح”. فُصل فتيل من عمله في أكتوبر 2024 دون مبرر قانوني، ورفضت السلطات إصدار شهادة “حسن سيرة وسلوك” له، ما منعه من الحصول على عمل جديد.
إضافة إلى ذلك، تم استدعاؤه مرتين للتحقيق في تهم غامضة تتعلق بالاحتجاج، وتعرض أثناءها للترهيب، بينما لا يزال محرومًا من بدل السكن الذي حُجب عنه منذ اعتقاله عام 2013.
في فبراير 2025، وجه ثلاثة من خبراء الأمم المتحدة رسالة إلى الحكومة البحرينية تحث على التحقيق في هذه الانتهاكات ووقف الأعمال الانتقامية بحق فتيل، لكن حتى الآن، لم يتم اتخاذ أي خطوات ملموسة بهذا الصدد.
احتجاج برغيف خبز
أما محمد عبد الله السنكيس، الموظف السابق في وزارة الأشغال العامة، فقد أُفرج عنه أيضًا ضمن العفو الملكي بعد 11 عامًا من السجن، لكنه لم يُعاد إلى عمله، ولم يتلقَّ أي تعويض عن السنوات التي قضاها خلف القضبان.
السنكيس قرر اتخاذ موقف احتجاجي فريد: نظم اعتصامًا في مارس 2025 أمام وزارته السابقة، ثم نقل احتجاجه إلى وزارة العمل حيث يواصل منذ 20 أبريل احتجاجًا سلميًا يوميًا، حاملًا رغيف خبز رمزًا لنضاله من أجل لقمة العيش والكرامة.
السلطات لم تكتفِ بتجاهل مطالبه، بل استدعته مرتين وأحالته إلى النيابة العامة، في محاولة واضحة لتجريمه على خلفية الاحتجاج السلمي.
يقول السنكيس: “أنا حرّ على الورق فقط. الحقيقة أنني أعيش تحت حكم مؤبد من الظلم… أطالب فقط بمعاملتي كمواطن، لا كمدان أبدي”.
حرية مشروطة ومضايقات متكررة
في حالة علي الحاجي، المدافع عن حقوق الإنسان الذي أُفرج عنه في يونيو 2023، تتخذ الانتهاكات طابعًا أمنيًا مباشرًا. خضع الحاجي لإعادة الاعتقال مرتين خلال أقل من عام، الأولى في نوفمبر 2023 والثانية في فبراير 2025، على خلفية حديثه عن أوضاع السجون ومطالبته بحقوق مدنية.
وقد أُفرج عنه مؤخرًا بشروط صارمة تشمل الإقامة الجبرية الجزئية وواجب تسجيل الدخول في مركز للشرطة، فضلًا عن استمرار تعرضه لمضايقات قانونية متكررة.
ماري لولور، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالمدافعين عن حقوق الإنسان، أعربت عن قلقها إزاء استهداف الحاجي، معتبرةً أن إعادة اعتقاله “جزء من سياسة لتكميم أفواه النشطاء وتقييد حركتهم حتى بعد الإفراج عنهم”.
عقاب جماعي للأسرة
قضية نجاح يوسف، الموظفة السابقة والنشطة الحقوقية المعروفة، تكشف عن بعد آخر أكثر قسوة في سياسة الانتقام البحرينية. اعتُقلت يوسف في 2017 بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تنتقد استغلال سباق الفورمولا 1 لتلميع صورة النظام، وتعرضت للتعذيب والحكم بالسجن ثلاث سنوات.
ورغم الإفراج عنها في 2019، لم تُعد إلى عملها، ولم تحصل على أي تعويض، وتخضع منذ ذلك الحين لمراقبة أمنية مشددة واستدعاءات متكررة.
الانتقام طال حتى أفراد عائلتها، حيث اعتُقل نجلها كميل وهو قاصر، ولا يزال حتى الآن خاضعًا لعقوبات بديلة ومجبرًا على ارتداء سوار مراقبة إلكتروني. أما هي، فأُعيد اعتقالها في مارس 2023 بعد مشاركتها في احتجاج ضد تلميع الانتهاكات من خلال الرياضة، وتم استدعاؤها أربع مرات منذ مطلع 2025.
انتهاك صارخ للقانون والدستور
المنظمات الحقوقية أكدت أن حرمان النشطاء المفرج عنهم من حقهم في العمل والسكن وحرية التنقل يمثل انتهاكًا واضحًا للدستور البحريني، فضلًا عن الاتفاقيات الدولية التي وقّعت عليها البحرين، وفي مقدمتها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وأضاف التقرير أن القيود الأمنية الإدارية التي تُفرض على النشطاء تُستخدم لترسيخ مناخ من الخوف والترهيب، ما يحد من أي نشاط حقوقي سلمي، ويخلق سابقة خطيرة تستهدف أي محاولة للنقد أو المطالبة بالإصلاح.
وفي ختام التقرير، دعت المنظمتان السلطات البحرينية إلى التوقف عن استخدام الإفراج المشروط وسيلة لاستمرار العقاب، مشددتين على ضرورة:
رفع جميع القيود الإدارية والأمنية فورًا.
إصدار شهادات حسن السيرة والسلوك دون شروط.
إعادة المفصولين إلى وظائفهم وتعويضهم عن الأضرار.
صرف بدل السكن المعلق.
فتح تحقيقات شفافة حول الانتهاكات.
وقف الاعتقالات والاستدعاءات التعسفية.
حسين عبد الله، المدير التنفيذي لمنظمة ADHRB، قال: “ما نشهده ليس إعادة دمج بل انتقام مموّه، يخدع المجتمع الدولي بمظهر إصلاحي كاذب. حرمان الناس من حقوقهم بعد السجن ليس إصلاحًا، بل عقاب مستمر”.
أما حليمة ناز، من منظمة العفو الدولية، فوصفت الوضع بقولها: “هذا قمع بطيء ومدروس. محاولة تغليف الانتقام على أنه رحمة هو جُبن سياسي في ثوب السيطرة. لن نصمت”.