البحرين بين التقييد والقمع: تحييد المجتمع المدني واستنزاف الحقوق

أصدرت وزارة التنمية الاجتماعية البحرينية التعميم رقم 13 لسنة 2025، الذي يُفرض على منظمات المجتمع المدني المرخّصة الالتزام بإجراءات تنسيقية مسبقة مع الجهات الحكومية قبل عشرة أيام على الأقل من إقامة أي فعالية.

على الورق، يبدو التعميم مجرد تنظيم إداري للنشاط المدني، لكنه في الواقع يعكس استراتيجية واضحة لتطويق العمل الأهلي وتحييد المجتمع المدني بشكل كامل.

ووفق التعميم، يجب على أي منظمة تقديم تفاصيل دقيقة حول طبيعة الفعالية، تاريخها ومكانها، عدد المشاركين، الفئة المستهدفة، وحتى المشاركين من خارج البلاد، مع موافقات الجهات الحكومية المعنية إن وُجدت.

ويضع هذا المستوى من التدخل والتفصيل يضع النشاط المدني مراقبة شديدة، ويحوّل المبادرات المجتمعية إلى عملية بيروقراطية تخضع لتقديرات سياسية، بعيدًا عن أي حماية قانونية أو استقلالية حقيقية.

وما يعنيه هذا التقييد بوضوح هو أن الدولة البحرينية تريد إخضاع كل عمل أهلي للوصاية الرسمية. منظمات المجتمع المدني لم تعد تستطيع التحرك بحرية، حتى إذا كانت نشاطاتها بعيدة عن السياسة تمامًا، مثل الأنشطة الثقافية أو البيئية أو التعليمية.

وقد أسقطت السلطات البحرينية مفهوم الحق المدني المكفول دستورياً، واستبدلته بترخيص أمني مُسبق، ما يعكس عقلية التحكم والسيطرة التي تنتهجها الحكومة تجاه أي صوت مستقل.

من وجهة نظر حقوقية، ما قامت به البحرين يُضعف دور المؤسسات المدنية بشكل كبير. منتدى البحرين لحقوق الإنسان وصف التعميم بأنه تقويض للنشاط المدني، وجعل من المنظمات الأهلية وحدات خاضعة للتقديرات السياسية الرسمية، ما يخلق مناخًا دائمًا من القلق والخوف بين العاملين في هذه المؤسسات.

وهذا النوع من التدخل يعرّض الناشطين والممارسين للمساءلة والضغط، ويقوض قدرتهم على القيام بأدوارهم المجتمعية بحرية وفعالية.

ويؤكد مراقبون أن التحول من حق مدني إلى ترخيص أمني مخالف للمعايير الدولية. فوفق إعلان الأمم المتحدة لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان لعام 1998، يضمن الحق في الاجتماع والعمل المدني دون قيود تعسفية، كما نصّت المادة 22 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على حرية تكوين الجمعيات دون تدخل حكومي قسري.

ويتجاهل التعميم البحريني هذه المبادئ تمامًا، ويضع المجتمع المدني تحت الوصاية الصارمة، بما يفرغ هذه المؤسسات من مضمونها ويحوّلها إلى واجهات شكلية عاجزة عن ممارسة أي تأثير حقيقي.

والخطورة الكبرى في التعميم تكمن في استهدافه لبنية المجتمع المدني ككل. فالسياسة المتبعة لا تقف عند الجمعيات والأحزاب أو الصحافة المستقلة، بل تشمل كل المؤسسات التي يمكن أن تكون فاعلة في الفضاء العام.

وقد باتت مجلس النواب، الأحزاب، النقابات، الجمعيات الخيرية، وحتى المبادرات الثقافية والتعليمية، كلها معرضة لتقييد صارم وإخضاع للمراقبة الحكومية. النتيجة المباشرة هي تفريغ الحياة المدنية من دينامياتها، وتحويل كل المبادرات إلى نشاط شكلي بلا أثر.

وبحسب المراقبين فإن ما يفعله النظام البحريني ليس مجرد تنظيم إداري، بل هو تحجيم ممنهج لروح المجتمع المدني وابتكار أساليب جديدة للقمع غير المباشر.

وبهذا النهج، تتحول البحرين تدريجيًا إلى بيئة استبدادية، حيث يصبح لكل فعل مدني شرط مسبق وموافقة رسمية، ويصبح المجتمع الأهلي مجرد امتداد للسلطة، وليس شريكًا فاعلًا في التنمية والمساءلة.

في النهاية، التعميم رقم 13 ليس خطوة عابرة، بل جزء من استراتيجية طويلة الأمد لسيطرة الدولة على كل أنشطة المجتمع المدني، واستنزاف أي قدرة على الاستقلال والتأثير.

وإن استمرار هذه السياسات سيقود إلى مزيد من الانسداد السياسي والاجتماعي، وإلى تحول البحرين إلى بيئة مدنية مسلوبة الحقوق، تشبه في قسوتها أنظمة استبدادية متطرفة. الحرية المدنية التي يكفلها الدستور والاتفاقيات الدولية لم تعد سوى شعار شكلي، بينما الواقع يؤكد تحكم الدولة الكامل بكل تفاصيل حياة المواطنين المدنية.

Exit mobile version