في عقدين (2001–2011) كانت الصحافة البحرينية تُعد فضاءً عامًّا حيويًّا لصياغة الخطاب العام والنقاش حول الإصلاحات السياسية والاجتماعية.
لكن اليوم، وبعد تحولات سياسية وقانونية وأمنية متدرجة، تحوّلت معظم الصحف اليومية من منصات للنقاش إلى ناقلات للبيانات الرسمية ومكرّسة لسردية الدولة.
وبحسب رابطة الصحافة البحرينية فإن هذا التحول لم يحدث بمحض الصدفة، بل نتاج تراكمي لقوانين، وملكية مؤسساتية مرتبطة بالدولة، وضغوط اقتصادية وسياسية، أدت مجتمعة إلى تصغير مساحة الصحافة الحرة إلى حدّها الأدنى.
أنماط التغطية: أربعة مؤشرات على التهميش
سيطرة الأخبار الرسمية: تغلبت تقارير الأنشطة الوزارية، البيانات البرلمانية، ورسائل التهنئة على الصفحات المحلية. الأخبار الخدمية تُقدّم كنجاحات حكومية أكثر منها تقارير عن واقع ميداني يعيشه المواطن.
اقتصاد بلا مساءلة: المواد الاقتصادية حافّة بالإعلانات المؤسسية والشراكات الرنانة، لكنها تفتقر للتحليل النقدي حول البطالة، الدين العام، أو فعالية سياسات التحول الاقتصادي.
الاستجابة الأمنية المحدودة: الأخبار القضائية والأمنية تُنقل بصيغة بيانات مختصرة تعيد إنتاج رواية الأجهزة الأمنية دون تمحيص أو تحقيق مستقل أو إبراز وجهات نظر بديلة.
صياغة خطاب الإنجاز: لغة العناوين والصياغات التحريرية (كـ«نجاح»، «تعاون مثمر»، «لفت الأنظار») تؤسس لخطاب رسمي موحّد، فتُلغى الأسئلة الأصيلة في الوظيفة الرقابية للإعلام.
الجذور: أسباب بنيوية وسياسية
هذا التراجع يعود إلى مزيج من العوامل: قوانين مقيدة (قانون المطبوعات والنشر، قانون الجرائم الإلكترونية) التي تجرّم النقد وتُنذر بالعقاب، وملكية صحف مرتبطة بمصالح الدولة أو رجال أعمال مقربين من السلطة، إضافةً إلى ممارسة الرقابة الذاتية بين الصحفيين خشية الملاحقة أو فقدان الوظيفة.
وقد أنتجت هذه الخلايا التنظيمية والسياسية بيئة إعلامية تفضّل البقاء والربح على حساب الاستقلالية والوظيفة العامة.
وتحوّل الصحافة إلى ملحق دعائي يترك أثرًا مباشراً في فقدان ثقة الجمهور؛ القارئ المحلي صار يشكك في قدرة الصحف على تمثيله أو الدفاع عن مصالحه، فيلجأ إلى الإعلام الخارجي ومنصات التواصل.
النتيجة: تقلص فضاءات الحوار الوطني وضعف آليات المساءلة العامة، ما يجعل مرور السياسات الحكومية أسهل وأسرع، دون مراجعة مجتمعية حقيقية، ويُعيق إمكانات الإصلاح في مجالات حيوية كالتعليم والاقتصاد والعدالة الاجتماعية.
وأكدت رابطة الصحافة البحرينية أن فقدان الصحافة لخاصية الوسيط بين الدولة والمجتمع يعني إضعاف «السلطة الرابعة» التي توازن بين احتياجات الجمهور ومصلحة الحُكم. بدون صحافة ناقدة ومستقلة، تتحول الدولة إلى جهة أحادية دون ضغوط تصحيحية، والمواطن يفقد أدوات المعرفة والمساءلة، ما ينعكس سلباً على شرعية المؤسسات واستقرار العملية السياسية على المدى المتوسط.
توصيات عملية لإعادة الاعتبار للصحافة
مراجعة الإطار القانوني: تعديل قوانين المطبوعات والجرائم الإلكترونية لتقنين حرية التعبير ورفع حالة الغموض التي تتيح الملاحقة التعسفية.
فصل الملكية عن الضغوط السياسية: وضع حوافز وتشريعات تشجّع تأسيس مؤسسات إعلامية مستقلة وشفافة في هيكل تمويلها وملكية أسهمها.
حماية الصحفيين: سنّ آليات قانونية تضمن حرمة العمل الصحفي وتحمي المشتغلين من الملاحقات الأمنية أو الاقتصادية، مع إدراج ضمانات للحق في التحقيق الصحفي.
ضمان الوصول للمعلومات: تشريع صريح لحق الحصول على المعلومات العامة يتيح للصحافة أداء وظيفتها الرقابية.
تعزيز تنوّع مصادر التمويل: دعم صناديق تمويل مستقلة للمؤسسات الإعلامية الصغيرة والمتوسطة لتقليل الاعتماد على الإعلان الحكومي أو على رأس المال المرتبط بالدولة.
ويشدد مراقبون على أن إعادة الصحافة البحرينية إلى دورها كوسيط بين الدولة والمجتمع ليست خطوة ثانوية أو ترفًا سياسياً؛ إنها مدخل أساسي لاستقرار مجتمعي وسياسي قابل للاستدامة. ذلك يتطلب إرادة سياسية عليا، تغييرات قانونية فعّالة، ودعم مؤسساتي مستقل. بدون ذلك ستظل الصحافة مرآة مشوهة للرواية الرسمية، والمجتمع يخسر أداته الأهم للمساءلة والتغيير.